ارتبطت الحداثة الغربية بالعلمانية كفلسفة تقاطع الوحي الإلهي أو تحصره في نطاق بالغ الضيق لا يتجاوز العلاقة الشخصية جداً بين الإنسان والله تعالى، التي لا ترتبط بأي مظهر عملي أو تطبيقي حياتي، حيث العقل وحده وروافده من الخبرات والتجارب الإنسانية من ينبغي له أن يحكم هذا العالم ويقرر تشريعاته ويحدد أفكاره، بل ويضع معيار الخير والشر.
أما في مرحلة ما بعد الحداثة، حيث سقط تأليه الإنسان لنفسه وكمركزية لهذا الكون، أضحت العلمانية في مأزق، فمع فلسفة التفكيك وأجواء العبثية والعدمية وروح اللاجدوى والصيرورة القاتلة عاد سؤال الدين ليطرح ذاته، مستحضراً ما قاله الفيلسوف مارتن هايدغر: «الله وحده ما زال بإمكانه إنقاذنا.. فنحن عندما ننحدر فإننا ننحدر بسبب غياب الإله»، فحدث تراجع ملموس للزمن العلماني، وربما بدايات لما يمكن أن نطلق عليه مرحلة ما بعد العلمانية.
أما في مجتمعاتنا العربية المسلمة، فلقد كانت هناك سردية أخرى تماماً، صحيح أنها في جانبها العلماني كانت تسير وراء العلمانية الغربية بعدة خطوات، وتقتات على معارفها وأفكارها وأطروحتها وقضاياها وإشكالاتها، وتُسقط ذلك بصورة غير منصفة على واقعنا وتحدياته، إلا أن مجتمعاتنا المسلمة بقاعدتها الشعبية ونخبتها الفكرية دخلت في صراع حاد وملتهب مع الآخر العلماني بتجلياته المختلفة، وعلى الرغم من أنه وفي نقاط تاريخية ساخنة كان المد العلماني يرتفع خاصة في أوساط ثقافية محددة، فإنه أبداً لم يستطع أن يكون له الغلبة، وعلى الرغم من ذلك استطاع النجاح جزئياً في صنع حالة من الضبابية؛ إثر قنابله الدخانية التي أثارها فانجرفت قطاعات من المجتمع للوقوع في مأزق التغريب نتيجة تشوش الرؤية لديها.
الجانب الآخر المظلم لسردية العلمانية في بلادنا، أنها لا تمتلك شجاعة المراجعة والنقد الذاتي التي بدأت بوادرها في الغرب، فالعلمانيون في بلادنا في حالة عمى، لا يرون النتائج الكارثية التي حلت بمجتمعاتنا جراء أطروحاتهم الفكرية، بل لعلهم يبررون هذه النتائج بحالة المقاومة التي لاقاها مشروعهم فلم يستطع فرض رؤيته بصورة شاملة.
ثمرة العلمانية
إذا كانت العلمانية هي الفكر، فإن التغريب هو التطبيق، معادلة في غاية البساطة، فالعلمانية منتوج غربي، حيث الغرب هو الذي تمرد على الدين وعلى سلطة رجال الكهنوت ورفع السحر الملقى على العالم، كما يقال، وهو من وضع الأسس الفكرية لعالم ما بعد المقدس، وتعزز ذلك بتلك الاختراعات العلمية والاكتشافات الحديثة التي قادها التي كانت المبرر الأكبر للقبول بالعلمانية والدفاع عنها في بلادنا، ومن ثم محاولة هؤلاء العلمانيين تقليد نمط الحياة الغربي، ودعوة مجتمعاتنا للتغريب مادياً ومعنوياً حتى نلحق بركب الحضارة.
ففي عبارات صريحة، يقرر د. طه حسين، في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، أن الطبقات الراقية الثرية لا بد أن تكون طبقات متغربة تعيش نفس النمط الاستهلاكي المرتفع؛ «حياتنا المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية، وهي في الطبقات الأخرى تختلف قرباً وبعداً من الحياة الأوروبية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات وحظوتهم من الثروة وسعة ذات اليد، ومعنى هذا أن المثل الأعلى في حياته المادية، إنما هو المثل الأعلى للأوروبي في حياته المادية».
والتقليد لا يكون في الأمور المادية الاستهلاكية فحسب، وإنما في الأمور المعنوية أيضاً، وإذا عاب د. حسين شيئاً في هذا الأمر فهو التأخر في النقل والتقليد؛ «وحياتنا المعنوية، على اختلاف مظاهرها وألوانها، أوروبية خالصة، نظام الحكم عندنا أوروبي خالص، نقلناه عن الأوروبيين، في غير تحرج ولا تردد، وإذا عبنا أنفسنا بشيء من هذه الناحية، فإنما نعيبها بالإبطاء في نقل ما عند الأوروبيين من نظام الحكم وأشكال الحياة السياسية».
أما أخطر ما في الأمر فهو صناعة عقول أبنائنا بطريقة غربية خالصة؛ لأن التغريب هنا يكون نابعاً من الجذور؛ «والتعليم عندنا قد أقمنا صروحه وبرامجه منذ القرن الماضي على النحو الأوروبي الخالص، ما في ذلك شك ولا نزاع، نحن نكوّن أبناءنا في مدارسنا الأولية والثانوية والعالية تكويناً أوروبياً لا تشوبه شائبة».
والهدف النهائي لهذا التقليد في كافة تفاصيل الحياة الوصول لمرحلة التغريب الشامل؛ «كل هذا يدل على أننا، في هذا العصر الحديث، نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءاً منها؛ لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً».
وإذا أردنا الوصول لمرحلة التغريب الشامل فعلينا أن نقوم بعملية تقليد شاملة دون أي منظور نقدي للمنطلقات ولا النتائج مهما كانت قسوتها ومرارتها؛ «علينا أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب».
أما الدافع العميق للسعي العلماني نحو التغريب فهو الشعور بدونية الذات الحضارية، حتى إن الهدف الأعلى للاغتراب لم يكن تقدم بلادنا عن طريق النقل والتقليد، ولكن أن نقنع الآخر الغربي أننا نشبهه حتى يعترف أننا لسنا أقل منه! وهو هدف غاية في البؤس أظنه بحاجة للعلاج النفسي أكثر من التنظير الفكري، يعبر عن هذه الحالة المرضية د. حسين بقوله: «وأن نشعر الأوروبي أننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوّم الأشياء كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها».
التغريب الجزئي
وإذا كان هناك ثمة علمانية جزئية وعلمانية شاملة (بحسب تقسيم د. عبدالوهاب المسيري، في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه)، فيمكننا أيضاً القول: إن ثمة تغريباً شاملاً وتغريباً جزئياً؛ وأعني بالتغريب الشامل تبني فرد أو فئة أو قطاع من المجتمع نمط الحياة الغربية بأدق تفاصيله عن قناعة كاملة بأنه نمط الحياة الأرقى الذي ينبغي لنا إعادة استنبات بذوره في تربتنا، كما دعا لذلك د. حسين بشكل صريح، وتبعه عدد لا بأس به من العلمانيين العرب.
ونجد تطبيقاً فجاً لهذا التغريب في قطاعات كبيرة ممن يُطلق عليهم «أهل الفن» (ولهم تأثير مدمر على فئة الشباب)، تجد مجاهرة الكثيرين منهم بتبني نمط المساكنة كبديل للزواج، والإعلان الصريح عن أبناء غير شرعيين وأبناء متحولين جنسياً! وهم لا يرون حرجاً في ذلك، بل يدعمون مثل هذه الممارسات ويسخرون من مجتمعنا المنافق الذي يدفن رأسه في الرمال حتى لا يرى واقع التغيرات فيه.
لكنَّ هناك تغريباً جزئياً يحدث دون تبني منطلقات العلمانية الفكرية، ولكنْ لنقص الثقافة الإسلامية أو كنتيجة للظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويتراوح هذا التغريب الجزئي ما بين تبني نمط الحياة الغربي في أمور لا علاقة لها بالدين بشكل مباشر؛ كارتياد مطاعم الوجبات السريعة والاهتمام بـ«البراند»، و«الترندي» في اللباس، والدخول في بعض التحديات الشبابية، ولا ينبغي التشنج مع الشباب في مثل هذه الأمور، بل نكتفي بمجرد إلقاء أضواء كاشفة لهم.
وهناك التغريب الذي يطول الدين بشكل غير مباشر؛ كتغريب اللغة، فلقد انتشر نمط من الكلام يمزج ما بين العربية والإنجليزية، وأصبح ذلك دلالة على الرقي، حتى إن الشباب اعتمد اللكنة الهوليوودية في النطق، وأصبحت اللكنة المخالفة مثاراً للسخرية بينهم، وربما تجد بعض الشباب المتدين الذي ينطق كلمات القرآن بمخارج نطق صحيحة تماماً، ولكن عندما يتحدث يتكلم بهذه اللغة الهجينة ما بين العربية والإنجليزية وكأن العربية لا تملك هذه المفردات، وبعضهم لا يستطيع التعبير بلفظة عربية مقابل اللفظة الإنجليزية التي يتكلم بها، وفي ذلك خطر على لغة القرآن حيث يغترب الشباب عنه.
بعض التغريب الجزئي ذنوب لا شك فيها؛ كانتشار التبرج ببين الفتيات، وتقليدهن للأزياء الغربية دون أن يعني ذلك إنكارهن لفرضية الحجاب أو اعتناقهن للأطروحة العلمانية، وقد يصل الأمر بالبعض لارتكاب الكبائر من الذنوب كالوقوع في الفاحشة نتيجة لضعف الوازع الديني وسوء الأحوال الاقتصادية والاضطراب الاجتماعي والنفسي، وقد يصل الأمر للسخرية من منظومة الزواج أو حتى الإشادة بمساحة الحرية الجنسية في الغرب دون أن يعني ذلك تبنيهم واعتناقهم لرؤية فكرية مرتبطة بالعلمانية بما تحمله من إقصاء للوحي الإلهي.
يتبقى التيار النسوي كأكبر تجلٍّ تطبيقي للتغريب، وهو في كثير من مدارسه واتجاهاته يمثل الابن الشرعي للعلمانية، فإذا استثنينا التيار النسوي الإسلامي الذي يعمل جاهداً للتأويل المتعسف ولي أعناق النصوص للوصول للأهداف النسوية المقررة سلفاً، لكنه من حيث المبدأ يضع الوحي الإلهي كمرجعية لمنظومته، أما باقي اتجاهات التيار النسوي فهي تنطلق من مرجعية علمانية تخاصم الدين وتقصيه حتى تستطيع فرض تحيزاتها المعرفية المستوحاة من النموذج الغربي للمساواة المطلقة بين الجنسين في شتى المجالات الحياتية.