قدر الله تعالى على البشر النقص، فمنه ما يؤاخذهم به بتقصيرهم، ومنه ما يعفو عنه تبارك وتعالى لما ركّبه فيهم من طبيعة تنسى وتغفل وتضعف وتخطئ، وأكمل الناس من تحرى الصواب وبذل فيه الوسع ليصل إلى إنفاذ مراد الرب جل وعلا وهم العلماء، فأفضل خلق الله أعلمهم وهم الأنبياء ثم ورثتهم وهم العلماء.
والعلماء الذين فضلهم الله تعالى عن غيرهم بالعلم عنه سبحانه وعن دينه لا يتعمدون الخطأ، بل يطرأ عليهم للأسباب التي ذكرنا آنفًا، ولذلك هم أولى الناس بإقالة عثراتهم لا سيما من اشتهر منهم بالفضل ومن تقدم منهم كسلفنا الصالح من أهل السُّنة والجماعة، ولو أُسقط كل عالم لخطأٍ بَدَر منه لما قُدم أحد قط، ولو ترك الخير الذي معه للغلط الذي حازه لتركت علوم الشريعة كلها، بل وحتى مصادرها قرآنًا وسُنةً، فتعيين الخطأ شيء وإقالة عثرة المخطئ وعذره شيء آخر، ولا يؤثر سوء الغلط على حسن فاعله طالما لم يتعمده، فما غفره الله تعالى لا ينبغي أن يؤاخذ به الآدمي، لا سيما وقد تعبدنا الله تعالى بأن تسلم صدورنا من الغل للذين آمنوا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنَّه بدعة، إمَّا لأحاديث ضعيفة ظنُّوها صحيحة، وإمَّا لآيات فهموا منها ما لَم يُرَد منها، وإمَّا لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتَّقى الرَّجل ربَّه ما استطاع دخل في قوله: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ (البقرة: 286)، وفي الصحيح أنَّ الله تعالى قال: «قد فعلتُ». (مجموع الفتاوى (19/ 191).
وعن تعيين الخطأ، فلا بد من ذكر تراتب علمي لا ينبغي تخطيه، وهو أن إدراك غلط العلماء يخفى كثيرًا على من لم يتقدم في العلم، ولذا يكون تنويه العلماء الآخرين به أجدى للعاميّ ألف مرة من أن يجسر ليُخطِّئ هو أهل العلم، فمن لم يبلغ من العلم مبلغًا يحاكم به أقوال أهل الفضل فلا سبيل إلى تعيينه إلا تقليدًا لغيرهم من أهل الفضل، وهذا التراتب العلمي يحسم كثيرًا مما يُرى في واقعنا الذي قد وقع فيه قديمًا الخوارج عندما لم يتعلموا العلم حسب أصوله ولم يراعوا هذا التراتب العلمي فجسروا على تخطئة علماء الصحابة رضوان الله عليهم بغيًا.
والكلام عام في كل تعيين لأي غلط صدر من أهل العلم فضلًا عن تعيين حدوده ثم أحكامه التي تلزمه، فالبغي قد يكون بتسمية الصواب خطأً أو بتعيين الخطأ ثم التعدي بتجاوز حدوده أو تعيينه بدقة ثم الغلط في أحكامه، ولا سبيل إلى القسط الذي أمر الله به إلا بالعلم وامتلاك أدواته بجانب تجرد القلب عن داعي الهوى، وينبغي أن ننوه بأمرين:
أولهما: أنه لا خصوصية لزمن معين في هذا التراتب العلمي، فمن علم حجة على من لم يعلم في أي زمان كان، وتقليل البعض من قيمة أهل العلم في زمانه في مقابل تعظيمه للسلف حصرًا غلط بيّن، فلكل زمان علماؤه وهم أفضل من فيه، فلا ينبغي تجاوز تحصيل الأدوات عن طريقهم ومن ثم القفز إلى من سبقهم مباشرة، فهذا لا يؤيده الشرع ولا العقل، فحجة الله تعالى على خلقه ومن يبعثهم ليجددوا أمر الدين في الناس وُجدوا لغاية تقريب الدين الصحيح لهم، ولو لم يكن الناس في هذه الحاجة لما قدر الله تعالى عدم خلو الزمان منهم ولتعبدنا بالقفز للزمن الفائت مباشرة من غير وسائط إليهم، وهذا غير ممكن أصلًا، وأدلة القرآن والسُّنة متكاثرة في إقامة الله الحجة على خلقه بأهل العلم منهم يسهل الإثابة إليها.
والثاني: أنه وبجانب سوء تعامل البعض مع مقالات آحاد السلف واعتبارها دليلًا في ذاتها كالقرآن والسُّنة، فهناك سوء تعامل من البعض في فهم هذه النصوص سواء كانت صحيحة في ذاتها أو ضعيفة، وكل ما نذكره في غلط الفهم لنصوص الشريعة ينسحب بالطبع على ما هو أقل منها وهو كلام السلف، فالأقدر على فهم كلامهم تقييداً لمطلقه وحملًا لمتشابه إلى محكمه ومعرفة ما ثبت منه وما لم يثبت وصوابه من غلطه هم أهل العلم لا من ادعاه.
ولنختم تلك السلسلة بكلام الإمام شمس الدين الذهبي في كتابه الجليل الذي أرّخ فيه لسير الصالحين، ناظرًا فيها بعين الإنصاف وأدب الاختلاف وإقالة العثرات، قال: «ثم إن الكبير من أئمَّة العلم إذا كثر صوابُه، وعُلم تحرِّيه للحقِّ، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعه واتِّباعه، يُغفر له زلَلُه، ولا نضلِّله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم! ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك» (5/ 271).
وقال: «ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه، لَمَا سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة» (14/ 39 – 40).
وقال أيضًا: «ولو أنَّ كلَّ من أخطأ في اجتهاده -مع صحَّة إيمانه وتوخِّيه لاتباع الحقِّ- أهدرناه وبدَّعناه، لقلَّ مَن يسلم من الأئمَّة معنا، رحم الله الجميعَ بمنِّه وكرمه».