في مثل هذه الأيام من عام 1995م كانت مذبحة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك التي هزت العالم، والتي راح ضحيتها أكثر من 8300 مسلم ومسلمة، قتلوا على أيدي عناصر من جيش صرب البوسنة، وبهذه المناسبة تعيد “المجتمع” هذا الحوار الذي أجرته مع الرئيس البوسني علي عـزت بيجوفيتش يرحمه الله.
بعد مرور عام على توقيع اتفاقية دايتون للسلام بين المسلمين والصرب والكروات تنعم جمهورية البوسنة والهرسك بهدوء نوعي الآن لكنها في نفس الوقت تشهد صراعاً من نوع آخر بين الأطراف الثلاثة، حيث أحلام الصرب في صربيا الكبرى، وأحلام الكروات في كرواتيا الكبرى، ومساعي المسلمين للحفاظ علي وجودهم وهويتهم بين الذئاب البشرية التي تريد أن تنهشهم من كل جانب، وفي هذا الحوار الذي تنشره م بالترتيب مع صحيفة «لليان» كبرى الصحف البوسنية، يُسلط الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش في صراحة ووضوح الأضواء على آخر التطورات القائمة في البوسنة الآن، فإلى نص الحوار:
بعد مرور عام كامل على توقيع اتفاقية «دايتون» كل شيء يتحرك ببطء شديد، أرجو من فخامتكم تقديم تحليلكم للقراء عن اتفاقية «دايتون» للسلام في ذكراها الأولى؟
– إن تقدير بطء أو سرعة تطبيق الاتفاقية راجع بالدرجة الأولى إلى المقياس الذي تنظرون به إلى تنفيذ بنود الاتفاقية، فإذا ما قارنّا الوضع في البوسنة والهرسك بوضع الشرق الأوسط، أو إيرلندا الشمالية لا يمكن القول بأن اتفاقية «دايتون» تراوح مكانها، نرى أن الأوضاع في الشرق الأوسط لم تخط خطوة واحدة إلى الأمام منذ أربعين عاما، إن أكبر إنجاز لنا هو إيقاف قتل رجالنا ونسائنا وأولادنا في البوسنة، وستوافقونني الرأي أن القتل تجاوز كل حدود يمكن تحملها، ولا يمكن تجاهل حقائق أخرى، مثل تقليص الصدامات المسلحة على خطوط الفصل بيننا وبين الطرف الصربي إلى حد لم يعد يقلقنا، وأننا وفرنا القدر الكافي من الكهرباء، ورمّمنا عدداً من المدارس والمستشفيات، -باستثناء بعض الحالات- وحققنا حرية التنقل داخل أراضي الفيدرالية المسلمة – الكرواتية، وفتحنا مطار «سراييفو» أمام رحلات مدنية منتظمة، وأن 400 ألف عامل يتقاضون رواتبهم، وأن 200 من المتقاعدين يحصلون على معاشهم أضعاف ما كانت عليه في بداية العام الجاري.
وبطبيعة الحال، يمكن النظر إلى الأمور من زاوية معاكسة، وعندئذ سيتبين لنا أن حرية التنقل داخل جميع أراضي الجمهورية محدودة، وأنه يتم اعتقال المسافرين أثناء السفر، ويستمر تدمير منازل المسلمين، ومازالت عودة اللاجئين المطرودين محدودة، ولم يتم تشغيل معظم المصانع، ومازال المتهمون بارتكاب جرائم الحرب يتمتعون بالحرية، وأن الكيان الفيدرالي يتحرك ببطء شديد، وأن خطر تقسيم الجمهورية مازال محدقاً، وأن عدداً كبيراً من سكان البوسنة يعيشون على المعونات الإغاثية.. إلخ.
هذه هي حقيقة ما يجري في البوسنة والهرسك، حقيقة بكلا وجهي العملة، لا بوجه واحد فقط، ليس صحيحاً أن الوضع في الحرب كان أحسن مما هو عليه الآن، كما تزعم بعض أقلام نعتبرها رزينة، لا يجوز أن نكفر النعمة، لماذا نتسرع وننسى بهذه السرعة العجيبة تساقط القذائف، وظلام المدن المطبق، والبرد القارس؟ وننسى أن سعر كيلو جرام واحد من السكر في سراييفو، وزينيستا، وبيهاتش كان عشرين ماركاً ألمانيا، لا أريد وصف الأوضاع بالمثالية، ولكننا اليوم نشتري كيساً من 25 كيلو جرام من السكر بهذا المبلغ نفسه، يجب أن يكون تحليلنا للوضع واقعياً، لأن تجميل وجه الواقع أو الاستياء منه لن يأتي بخير، بل سيأتينا بشرّ محض، وهذه هي مناسبة لأدعو قراء جريدتكم الموقرة التي يقرأها عدد أكبر مما يقرأ جرائد أخرى، لتعرض دائماً أمام القراء الحق والحقائق، وهي من الأهداف والنوايا التي تنص عليها لوائح تأسيس الجريدة وتقتضيها سياسة منهجها وتحريرها.
أصبح من المحزن متابعة تنقل أعضاء رئاسة الجمهورية لعقد جلساتهم، فأول جلسة للرئاسة عُقدت في مقهى شعبي، ثم في مبنى المتحف، ثم في ثكنة الجيش، هل هناك من بصيص أمل في وقف هذه المهزلة مع هيبة أعلى هيئة سياسية للدولة؟ وهل تتوقعون عقد جلسات الرئاسة في مكانها الطبيعي، في القصر الجمهوري، قبل نهاية العام الحالي؟
– لا أظن ذلك، حتى نهاية العام الجاري على أقل تقدير، إن خريطة دولة البوسنة والهرسك معقدة: ثلاثة أديان، ثلاثة شعوب، إضافة إلى «شعوب أخرى»، وقد غلت مشاعر النزعة القومية بين الشعوب الثلاثة جميعها، وفي حالتي الصرب والكروات تحولت تلك المشاعر إلى النزعة العنصرية المتطرفة، ثم إلى المطالب الانفصالية، وهذه هي مواد البناء البشرية المتاحة لبناء كيان الدولة، ويستحيل بناء دولة عادية معتدلة من مواد بناء مثل تلك، هل سنرفع أيدينا عن تكوين الدولة من أجل هذه السلبية؟ في هذا الوضع القائم أمامنا حلان اثنان فقط: إما أن نستأنف القتال وإما أن نتوصل إلى اتفاق، وفي رأيي هناك مائة سبب وسبب من أجله أعارض استئناف القتال، إن البوسنة لنا، ولكن ليست لنا خالصاً من دون الآخرين، لأننا نحن المسلمين البوسنيين لا نُشكل سوى نصف سكانها، لذلك علينا أن نتقاسم الأرض مع الآخرين، وهذا يعني تقسيم الدولة أو تقسيم سلطات الدولة، وهو بالضبط ما ترونه الآن، نحتاج إلى تكوين أجهزة دولة مشتركة، لأن الآخرين يرفضون التعامل معنا بدون تشكيل تلك الأجهزة الحكومية، ولأن المجتمع الدولي يعلق تقديم المساعدات المالية باستيفاء تلك الشروط، وبدون هذا الدعم لن نشغل العمال، ولن نشرع في إعادة التعمير، وهذا يعني انتشار البطالة والفقر واللجوء إلى المظاهرات والاضطرابات الاجتماعية، ومن ثم العودة بالدولة إلى حالة الفوضى، إن تنقلات أعضاء الرئاسة لعقد الاجتماعات أمر سيئ، ولكنه ـ على سوئه ـ يتفادى قيام أمور أخرى كثيرة أسوأ من ذلك.
ماذا يقول مومشيلو كراييشنيك، العضو الصربي في مجلس الرئاسة ـ عن الأحداث في مدينة «بانيالوكا»؟
– إنه يقول إن أموراً مشابهة تحدث في الأراضي الواقعة تحت سيطرة سلطاتنا، ومن هنا يبدأ جدال عقيم لا نهاية له حول ما يتطابق وما يتعارض مع واقع الأمور على الساحة، يكمن حل وضع مدينة بانيالوكا وما يشابهها في البحث عن أساليب أخرى، وهو أمر يحتاج إلى وقت لإيجاد الحل.
يبدو أن انتظار المستقبل قد توقف في البوسنة، وأن صفحات النسيان قد طوت أحداث الماضي القريب، وحلّت بالبوسنة حالة «حاضر لا سبيل إلى نهايته»، والكل ينتظر من البوسنة التحمل والمصابرة حتى تخور قواها تماماً؟
– هذا سؤال ذو عمق فلسفي، وكأني أدرك ما تقصده بسؤالك هذا، يمكنني أن أوافقك رأيك، ولكن لا أدري ماذا سنستفيد من اتفاقنا في هذه المسألة؟ إن البوسنة تعيش حالة مَرَضيّة، ولا فائدة من التحسّر والتكسّر على حالة لرجل أصيب في حادث مروري بأضرار جسدية بالغة، لم يعد في إمكانه أن يعيش مثل الأسوياء الآخرين، أمامه فقط أن يلازم السرير ويبحث عن العلاج، إن سؤالكم يوحي إليَّ كأن البوسنة ليست مصابة، مفككة، مثخنة بالجراح كأنها سليمة صحيحة، ولكنها ليست كذلك، في مثل هذه الأوضاع يبقى السؤال المنطقي الوحيد هو: هل تشخيص المرض صحيح أم خطأ؟ وهل سيؤدي إلى التحسن والشفاء؟ وقبل أيام جاءني أحد أساتذة القانون، وشرع يقرأ لي دستور دولة النمسا باعتباره نموذجاً لدولة متقنة التنظيم، ومع أنه لم يقلها صراحةً، إلا أنه يشير بذلك إلى ضرورة تنظيم دولة البوسنة والهرسك على تلك الأسس القانونية المتقنة، وهو ما يتوجب عليَّ مطالبة البرلمان به، لم أجبه على ذلك، إن الأمر بالنسبة له سهل يسير، لأنه أستاذ جامعي وليس سياسيا.
بعد إجراء الانتخابات الرئاسية يوم 14 سبتمبر الماضي بدأ المجتمع الدولي يتدخل علناً في شؤون البوسنة والهرسك الداخلية، وسياسة تعيين الكوادر في الأجهزة الحكومية، وهذا ما يفعله بعض السياسيين الأمريكيين والأوروبيين بصورة مكشوفة سافرة، إن أبرز مثال على ذلك المطالبة الأمريكية بإقالة نائب وزير الدفاع السيد: حسن شنُغيتش، كيف تفسرون الرأي العام السائد بأنكم أنتم الشخصية المستهدفة في نهاية المطاف؟
– قد يكون الأمر كذلك، ولكن ليس بالضرورة، لا يجوز بناء استراتيجية الدولة على الفرضيات، نجد هذا التفكير في أوساط الرأي العام، ولكننا نجد رأياً آخر لدى الشريحة العملية الواقعية من الرأي العام، وهؤلاء يسألون: هل يكون منصب فرد واحد أهم من تزويد الدولة بالسلاح؟ أمّا أنا فأفكر بطريقة تالية: إن أهم أهدافنا بناء دولة مستقلة موحدة ذات نظام ديمقراطي، وعلينا تحقيق هذا الهدف السامي بوسائل سياسية، أي بطرق سلمية، لأن أسلوب الصراع المسلح محفوف بالمخاطر، وإذا سعينا إلى تحقيق ذلك يجب أن نكون أقوياء، لأن السياسة التي لا تدعمها قوة عسكرية سياسة فاشلة في الغالب، ولكي نكون أقوياء لابد من توفير السلاح أو لضمان توازن القوى العسكرية مع المعتدين المحتملين، وبالنسبة للبوسنة يمكن تحقيق التوازن العسكري بأحد أسلوبين: استناداً إلى اتفاقية فيينا يتم تدمير الأسلحة الصربية الزائدة، أو من خلال «برنامج التدريب والتسليح» الأمريكي، ولا يمكن تحقيق أحد الأسلوبين بدون مساعدة أمريكا، ولا وجود لخطة بديلة لتحل محل الوسيلتين المذكورتين حتى تتعادل كفتا ميزان القوة العسكرية ويتحقق التوازن، ونحن في وضع تعرض أمريكا علينا تعاونها ومساعدتها، هل سنرفض تلك المساعدة لعدم توافر ضمانات كافية لأمننا الداخلي؟ وما الذي علينا عمله الآن؟ وإذ بقينا وحدنا وسط هذا الحصار من الذئاب البشرية المجاورة فإن لُعابها سيسيل، وشهيتها في أراضينا سوف تزداد، هل علينا أن نسلم أمرنا للصدفة والمعجزات؟ ولكن.. لعلكم توافقونني بأن هذا يخرج من نطاق السياسة، ونحن هنا نتحدث عن السياسة باعتبارها مجالاً لممارسات النشاط الإنساني، وأنا موقن بأن الله عز وجل يُسيِّر أحداث التاريخ، ولكننا نقوم بذلك الدور، ومن أجل كل ما أشرت إليه سنستجيب وسنقوم بتغيير من يُطلب تغييره في وزارة الدفاع تحقيقاً لمصالحنا ودفاعاً عن الحقوق المعنوية لرجالنا أيضاً.
لاحظنا أن هناك ظاهرة بين مسؤولين دبلوماسيين وعسكريين غربيين قد أحيلوا إلى التقاعد أثناء أداء عملهم في البوسنة، ثم لا يمضي وقت طويل حتى يخرجوا أمام الرأي العام بتصريحات متناقضة حول مهامهم السابقة في البوسنة، ومنهم القائد الأمريكي السابق للقوات الدولية اللواء ليتون سميت، فقد صرح بأن المسلمين يسعون للسيطرة على كل شيء في البوسنة، ثم قال: «إننا لن نسمح لهم بذلك»! وهذا الجسّ لنبض البوسنة يكشف لنا عدم إمكانية التوقع لسير واتجاه الأمور في المستقبل؟
– يمكنني تفسير كلمات اللواء: ليتون سميت بصورة أخرى، كأنه يقول على سبيل المثال: لا يمكن أن يستأثر المسلمون بالسلطة في البوسنة، فهناك شعوب أخرى يجب أن نستشيرهم وأن يشاركوهم في تحديد المصير، وبالعكس، نحن لم نطالب بالسيطرة على كل ما يتعلق بالدولة، فلماذا يستجيب اللواء: ليتون سميت لمطالب لم نرفعها؟ صحيح أننا حتى وقت قريب كنا نمثل الدولة دون غيرنا، رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ووزير الخارجية، وأغلب السفراء كانوا من المسلمين، وهذا الأمر كان لظروف الحرب، أي كان إجراءً مؤقتا، ومشاركة الكروات أولاً، ثم الصرب ثانيا في أجهزة الدولة هي ثمن ندفعه للسلام، وقد يكون تصريح اللواء ليتون سميت صحيحاً من جهة، أي أننا وحدنا كنا نسيطر على أجهزة الدولة، ولكن دولة مقسمة، أو جزء من دولة معترف بها، وهذا سلوك لم يعد ممكناً أو مقبولاً في أجهزة دولة البوسنة والهرسك الموحدة، ونحن من بداية العدوان نرفض رفضاً قاطعاً تقسيم الدولة بأي شكل كان.
مع أن تنفيذ البرنامج الأمريكي وتسليح الجيش البوسني مسألة سياسية في المقام الأول، إلا أن بعض التحليلات تشير إلى سعي الدوائر المالية الأمريكية المؤثرة إلى تحويل المبالغ المرصودة لبرنامج التسليح والتدريب على بعض حسابات خاصة، ولذلك تسعى لزيادة توتر القضية إلى اللجوء إلى وسيلة ناجحة مجربة للتستر على ذلك باتهام بعض المسؤولين بعلاقة بدولة إيران، وتنظيمات إسلامية مسلحة، ومنظمات إرهابية.
– قد تكون الأمور كذلك، ولكن بعد وضع كل الأمور في الحسبان لا أتردد في اتخاذ قرار بقبول السلاح المعروض علينا، لأنه سلاح وحيد يمكننا الحصول عليه، ولن يدخل سلاح غيره إلى البوسنة والهرسك، انظروا إلى خارطة الدولة وسيتضح لكم سبب ذلك، صحيح يمكننا تصنيع بعض أنواع السلاح في البوسنة، ولكن معظم مكوناته وقطع غياره يجب استيرادها، وهذا معرّض للأخطار والعراقيل، لا أفضل المخاطرة، ولا أطلب أثراً بعد عين، وسؤالكم يكشف لي عن موافقتكم على هذا الأسلوب ورفض الشروط، إذن أعطوني حلاً وقولوا لي ما العمل، في مثل وضعنا لا يكفي عرض وسرد نقائص وسلبيات خطة أو حل ما، ثم يمضي أولئك المنتقدون إلى سبيلهم، عليهم أن يقدموا حلاً آخر، أو حلاً لا يحتوي على ذلك العدد من النقائص، أو حلاً أحسن من الحل المطروح، الكل هنا يركب عقلية الانتقاد، ولا يقدم حلاً أحسن، وفي الغالب لا يقدم أي حل إطلاقا.
ولكننا عندما نستطلع المواقف الأمريكية العلنية نرى أن الإدارة الأمريكية طالبت علنا بإقالة مجرم الحرب رادوفان كاراذيتش من الجانب الصربي، وحسن شَنْغيتش، نائب وزير الدفاع، من الجانب المسلم، طبعاً لا مقارنة بين الأمرين إطلاقاً، ولكننا نتحدث على لعبة قواعدها واحدة، هل هذا التدخل في الشؤون الداخلية للدولة هجوم على سيادة واستقلال جمهورية البوسنة والهرسك؟
– لا مجال لعقد المقارنة بين المسألتين، لأنهما على طرفي النقيض، وأما ما يتعلق بسيادة الدولة فإننا قد وافقنا على سيادة ناقصة، ولكن موافقتنا مؤقتة، وهذا واضح من بنود اتفاقية «دايتون»، وأذكر أن برلمان الجمهورية قد وافق على اتفاقية السلام في نهاية شهر نوفمبر من عام 1995م، ولتتمتع دولة ما بسيادتها على أراضيها وما يترتب على ذلك، ولابد من تحقيق شرط، وهو وجودها واستمرارها على وجه الأرض، وبدون أرض لا وجود لدولة، وبالتالي لا وجود لسيادتها ولعزتها، ومازال الصراع من أجل استمرار وبقاء البوسنة والهرسك مستمراً لأنه لم يكتمل ولم يصل إلى نهايته، وأنا مؤمن ببقاء البوسنة والهرسك وصمود شعبنا، لأنه شعب قوي، وهذه هي ركائزنا في الصراع على البقاء وإعادة بناء الدولة، وبعد أن نقف بأقدامنا على أرضية صلبة ثابتة سنقدم شكرنا للأجانب وسنبدأ بحل وإدارة أمورنا بأنفسنا، وهذا أمر غير ممكن اليوم، كما تطالبون أنتم به الآن، ولا أشك أننا ـ بإذن الله ـ سنقدر على ذلك في الغد القريب.
إن تصرفات ممثل الطرف الصربي في الهيئة الرئاسية مُومشيلو كراييشنيك مازالت تصب في مصب زعزعة أركان الدولة، هل يمكننا أن نتوقع تقديم حلول وسطية وتنازلات جديدة لصالح الطرف الصربي؟
– قد تكون تصرفاته تجاهنا كما وصفتها، ولكن تصرفاتنا تجاههم هي نفسها، حاولوا ولو للحظة واحدة، النظر إلى سير الأمور من زاويتهم، من أجلهم هم لا من أجلنا نحن، فقد اضطر مُومشيلو كراييشنيك إلى المجيء إلى سراييفو وإلى الاعتراف باستقلال البوسنة والهرسك، ووقع على وثيقة الالتزام بالدفاع عن دستور الجمهورية، وقد اضطرت رئيسة الكيان الصربي بيليانا بلاوشيتش إلى قراءة بيانها على شاشة التليفزيون الصربي تلتزم بالاعتراف بسيادة ووحدة جمهورية البوسنة والهرسك، والتخلي عن المجرمين: رادوفان كاراذيتش، وراتكو ملاديتش، وقد عاد مواطنونا إلى قرى «يُوسيتشي»، و«مَحَلّة»، و«دُوغي دُو»، وبعض القرى قرب «دُوبُويّ»، و«بُرْتشكُو»، وتنتظر السنوات القادمة تطبيق الملحق السابق من اتفاقية «دايتون» للسلام، وأمام الطرف الصربي أن يوافق على تطبيق القرار بحرية عودة اللاجئين أو أن يواجه مقاطعة سياسية واقتصادية دولية، وهذا يعني دخولهم في عصر الظلام والفقر لسنوات عديدة، وعلى كل حال أمامنا حرب خنادق سياسية طويلة الأمد، ولكن شعبنا لن يتعرض فيها للتقتيل والإبادة، صحيح أنني لا أدري الآن ما الذي سنكتسبه من وراء تلك الحرب، ولكني أعلم علم اليقين أن مكاسبنا ستكون أكبر من المكاسب التي حققناها في خنادق القتال.
لقد عقد الطرفان الكرواتي والصربي اجتماعاً في مدينة «مُوستار» يوم التاسع من نوفمبر الماضي، ألا تتخوفون من اتفاقية جديدة بينهما على حساب المسلمين؟
– لا.. لا أخاف أبداً، لن يقبل أي حل في شؤون البوسنة باستبعاد الطرف المسلم، فليواصلوا اجتماعاتهم كما يروق لهم، وأتمنى لهم اجتماعات ناجحة.
لعل قراءنا يتطلعون إلى معرفة هل ستجري تغييرات في بعض المناصب بعد الانتخابات الأخيرة، يبدو على السطح أن الحزب الذي ترأسونه مجبر على تقديم بعض التنازلات؟
– لقد قلت: إننا مضطرون في هذه البوسنة التي هي قائمة على شكلها الحالي إلى الاختيار بين تقسيم أراضي الجمهورية، وبين تقسيم السلطات فيها، أو بعبارة أدق بين القبول بسلطات كاملة على أرض مقسمة وبين سلطات مقسمة على أراضٍ كاملة، ولا وجود لسلطات مسلمة كاملة على أراضٍ كاملة للجمهورية، أقول هذا لأخفف عن شعبنا عندما يستمع يومياً إلى أخبار تتحدث عن جدال ومشادات كلامية حول تقسيم المناصب على مستوى الجمهورية أو على مستوى الفيدرالية بين المسلمين والكروات، إذن لا مجال للحديث عن تقديم تنازلات، لأن الحديث الآن عن تقاسم السلطات، وهذا أمر لا مفر منه، ولا تعرف هذه المشكلة المعقدة دولٌ يشكلها شعب واحد، مثل النمسا، وسلوفينيا، ولكن تعرفها دول مثل: سويسرا، وبلجيكا، لأنهما دولتان تتكونان من أعراق وشعوب متعددة.
لقد كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن اتفاقية «دايتون» الثانية، هل تُخبئ لنا ما يتعلق بتنفيذ ما تم الاتفاق والتوقيع عليه سابقاً، أو تخبئ أشياء أخرى؟
– لم تطرح حتى الآن اتفاقية دايتون الثانية، ومازلنا نتحدث عما يسمونه اتفاقية دايتون الأولى، لأننا نناقش تنفيذ لا مراجعة الاتفاقية، ومازال العالم أو أمريكا بالتحديد -ولست متأكداً بأن بعض دول أخرى ترى ذلك أيضاً- يرى قابلية تطبيق اتفاقية دايتون، ولبلوغ هذا الهدف تم عقد مؤتمرين دوليين، أولهما في باريس بتاريخ 14 نوفمبر، وثانيهما في لندن في بداية ديسمبر الجاري، والآن نعرف أموراً أكثر عما يريده العالم في البوسنة، وبطبيعة الحال لن نعرف أبداً التفاصيل والخفايا، ولكن الأمر الأهم أننا نعرف ما نريد، وعلى الرغم من أن الدول الكبرى طرف في هذه المحادثات إلا أننا لسنا طرفاً يوصف بالوهن والعجز، إن دورنا ذو أهمية ولنا تأثير فيما يتعلق بتحديد مصيرنا لأننا نستعمل حججنا ووثائقنا.
هل من كلمة أخيرة نختتم بها هذا الحوار؟
– علينا التركيز على الحقائق وتحليل الأمور، قد يكون حديثي صريحاً وغير مُرْضٍ ويشعر الشعب من أجله بنوع من المرارة، ولكنني أرى أن الشعب يحتاج بدلاً من الكلام المعسول البليغ إلى الحقائق، لأن الحياة لا تحابي أحداً ولا ترحم، ولكننا بإذن الله سننتصر في نهاية الأمر.