قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه مليئة بالعبر والعظات، وقد رواها السيوطي في «الخصائص الكبرى»، والبيهقي في «دلائل النبوة»، وابن هشام في «السيرة النبوية»، وقد رواها كذلك ابن كثير في «البداية والنهاية»، وهذا نصها عنده، قال:
«قال ابن إسحاق: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: إنك قدمتَ بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تَكْلِمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوْت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا (قطناً) فرَقَاً (خوفاً) من أن يبلغني شيء من قوله.
قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه فأبَىَ الله إلا أن يُسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلتُ في نفسي: وَاثُكْلَ أُمَّاه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني مِنْ أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبِلْتُ، وإن كان قبيحاً تركت، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبَى الله عز وجل إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك.
قال: فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللهم اجعل له آية.
قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية (ما انفرج بين الجبلين) يقال لها كذا وكذا، تطلعني على الحاضر (القبيلة النازلة على الماء)، وقع نور بين عيني مثل المصباح، قال: قلت: اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلَةٌ (مرض وعقوبة) وقعت في وجهي لفراق دينهم، قال: فتحول فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم فأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً، فقلت: إليك عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ مني، قال: لِم يا بُني؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بني، فديني دينك، قال: قلت: فاذهب يا أبتِ فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت، قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتني صاحبتي (زوجتي) فقلت لها: إليك عني فلست منك ولست مني، قالت: لم، بأبي أنت وأمي؟ قلتُ: فرق الإسلام بيني وبينك، أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، قالت: فديني دينك، قال: قلت: فاذهبي إلى حنى ذي الشرى فتطهري منه -وكان ذو الشرى صنماً لدوس- وكان للحنى حمى حوله وبه وشل (قليل) من ماء يهبط من جبل إليه، قالت: بأبي وأمي أتخشى علي الصبية من ذي الشرى شيئاً؟ قال: قلت: لا، أنا ضامن لك، قال: فذهبت واغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت.
ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبطؤوا عليَّ (لم يستجيبوا) فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله، إنه قد غلبني على دوس الزنى، فادع الله عليهم، فقال: اللهم اهد دوساً، ثم قال: ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم، فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.