بالأمس غرق قارب يحمل مهاجرين معظمهم أفغان انطلق من الساحل الفرنسي إلى سواحل إنجلترا عبر بحر المانش، وقبله بيومين غرق قارب في البحر المتوسط يحمل مهاجرين من أفريقيا قبالة سواحل إيطاليا قادمين من صفاقس التونسية، ومع تكرار الخبر في نشرات الأخبار خلال ما مضى من سنوات، تحول إلى خبر اعتيادي يتابعه الناس كما يتابعون أي خبر يومي عادي، بينما أمواج بشرية تتلوها أمواج، تستقبلها بطون الأسماك، والأمر بلغ حد اتهام بعض الدول -مثل اليونان- بتعمد إغراق سفن المهاجرين إليها كمحطة عبور.
هذا بخلاف ما يتم التعتيم عليه إعلاميا من تصرفات يومية من جنود حرس الحدود البرية، خاصة في الدول الواقعة على الحدود الفاصلة بين آسيا وأوروبا، وما يمارسونه من جرائم ضد المهاجرين من تقتيل وتعذيب وإطلاق للكلاب البوليسية لتنهش أجسادهم، وفي أخف الحالات تجريد المهاجرين من ثيابهم وأمتعتهم، ثم القذف بهم خلف الأسلاك الشائكة ليعودوا من حيث أتوا.
كل هذا يتم تحت ما تسميه الدول (المتقدمة) “هجرة غير شرعية”، ونفس هذه الدول (المتقدمة جدا)، لا تكف عن الصياح بأعلى صوت بادعاء الدفاع عن حقوق الإنسان، التي لا ينفك عنها حرية التنقل!
حرية التنقل هي “ادعاء” في عالم أصبح فيه المواطن كالفأر في مصيدة الدولة؛ يلزمه جواز سفر للخروج، وتأشيرة سفر للبلد التي سيدخلها، والتأشيرة يلزمها رسوم مدفوعة غير مُستَرجَعَة، وتعبئة استجواب، وتقديم مستندات. وبالمستندات يتم فرز الطلب حسب الدخل والشهادة العلمية وموافقة الجهة المستقبِلة، وأحيانا طلب مقابلة شخصية، وفي النهاية يتم رفضك أو قبولك بدون إبداء أسباب!
وفي عالم يصيح بمناهضة التمييز، تجد أن الورقة المسماة بجواز السفر، والتي لا صلة لها بإنسانيتك ولا درجتك العلمية ولا أعمالك النافعة ولا أي شيء يرتبط بك كإنسان، إلا أنها ترتبط بمحل مولدك الذي لم تختَره ولا حيلة لك فيه، جواز السفر هذا هو الذي يحدد درجتك في حرية التنقل؛ فبحسب الدولة التي ينتمي لها جواز السفر يتم تحديد عدد الدول التي تستطيع دخولها دون الحاجة لإذن دخول مسبق؛ فربما تجد نصابا محترفا، أو حتى مجرما عتيد الإجرام، يمتلك حرية التنقل، بينما أنت الإنسان الطيب الأمين العطوف الحالم برؤية العالَم، أو المجتهد لتحقيق حياة أفضل، بسبب أنك تنتمي بحكم المولد لدولة من العالم الثالث، مكتوب عليك أن تظل محبوسا خلف الأسوار، وإن حاولتَ الفكاك، أكلتك الأسماك، أو استقبلتك كلاب الحراسة خلف الأسلاك.
والذي يحدد مشروعية الفعل من عدمه، هو من يملك القوة والسلطة؛ فالدول الكبرى حددت أن هجرة الضعفاء والفقراء والمضطهدين الذين انقطعت بهم سبل العيش الكريم في أوطانهم غير مشروعة، بينما سرقة الدول الكبرى لمقدرات تلك الشعوب، ونهبها المستمر لها، ومساندة الحكام الموالين للغرب، ودعم ديكتاتوريتهم وفسادهم، ومناهضة تقدم تلك الدول، واحتكار العلوم والتكنولوجيا والمخترعات، وحظر تداولها إلا على سبيل الاستهلاك، وتأجيج الحروب، وتزويد أطراف النزاع بالسلاح، فضلا عن إنفاق المليارات للترويج للشذوذ والانحلال.. كل هذا تعتبره أفعالا مشروعة!
عجيب أن نعيش في عالَم يدعي التحضر، وفي الوقت ذاته يُضفي على أعماله الإجرامية صفة “الشرعية”، بينما الضعفاء المنهوبون والمضطهدون الذين يحاولون الانتقال فقط من مكان إلى مكان في أرض الله الواسعة، يكون فعلهم هذا “هجرة غير شرعية”!