يعقوب
أتيح ليعقوب المولود في ملوي بالصعيد (1745 – 1801م)، أن يتولى الجباية المالية للمماليك ثم الغزاة الفرنسيين، وأن يكون من علية القوم في البلاد، ومقرباً من الجهات الحاكمة والشعبية، وأن يبتني القصور ويقتني الضياع والخيول، وأن يكون من أكثر المصريين ثراء وجاهاً.
ولكنه كان من أسافل القبط، وانتهز دخول بونابرت بحملته الدموية إلى البلاد حتى كوّن ما سماه «الفيلق القبطي»، وتحصن في قلعته بالرويعي (قلب القاهرة)، وراح يُصْلي المصريين بقنابله، ويشارك جيش الاحتلال في مذابحه ضد بني وطنه، ويذهب بمقاتليه النصارى إلى الصعيد جنوب البلاد يلتمس الدعم والمؤونة لجيش الاحتلال مع الجنرال ديسيه، وتأديب فلول المماليك والقرى والقبائل التي أعلنت الجهاد ضد الكفار (كما يقول الراوي وليس المحتلين الغزاة!) (ص، 81 وما بعدها)، ويعلل ذلك بالتخلص من الظلم المملوكي والعثماني لطائفته، ومع أنه كان خادماً للمماليك والعثمانيين، فإنه راح يسعى لما يسميه تحقيق استقلال مصر، وكأن مصر مستعمرة عثمانية، وليست مستعمرة فرنسية!
الرفض والتمرد
يعلن يعقوب تمرده على بلاده، ويرفض الخضوع للسلطة العثمانية الشرعية، ولا يقبل بالعفو والأمان الذي قدمته الدولة العثمانية للخونة، لأن المجد في زعمه لمن قال لا، وأنه على دين العقل ودين الجمهورية (ص 74).
يكشف النص أن يعقوب شاذ إيجابي، وخليله الجنرال ديسيه شاذ سلبي، وتأثير كل منهما على الآخر كان قوياً، (ص 67)، ويسهب في تصوير حالة الشذوذ بينه وبين ديسيه (ص 82 – 83)، وتعلق كل منهما بالآخر لدرجة أن يطلب يعقوب من أحد أصدقائه كتابة قصيدة باسمه يرثي بها ديسيه حين قتل في معركة مارنجو بإيطاليا، فجاءت أبياتها ركيكة ضعيفة، وكاشفة فاضحة لتؤكد العلاقة الحميمية الشاذة بينهما (ص 38 – 39).
ويفتعل الراوي/ التلميذ لقاء مع زميله خالد عبدالمحسن –ولعله ابن عبدالمحسن طه بدر- في الكونترول ليبحث معه بحكم تخصصه (علم النفس) عن تفسير مسألة الشذوذ الجنسي لدى يعقوب، فيخبره خالد بأنه مرتبط بما يسميه الهوس والاختلاف عن الآخرين، وهي أيضاً من دوافع يعقوب لما يسميه رفض المجاراة الاجتماعية، ورفض الوضعية القبطية آنذاك فتعلم ركوب الخيل واستخدام السلاح، وكأنه يبرر للخيانة (ص 105).
الغزل الشعري
ولا يفوت النص أن يحدث نوعاً من التشابه في الشذوذ بين المسلمين والنصارى، فيتهم به الشاعر إسماعيل الخشاب الذي كان مشهوراً في فترة الحملة الفرنسية، وشغل منصب كاتب «وقائع الديوان»، وله مخطوط تاريخي صغير نشره عماد أبو غازي، ويرى أن الخشاب كان مغرماً بالغلمان ويظهر ذلك من خلال تغزله الشعري بهم، كما كان له خليل فرنسي أيضاً، (ص 67).
وأهم ما يلفت النظر في شخصية يعقوب علاقته البائسة بالفرنسيين والإنجليز، واعتقاده أنهم سيحققون أمله، ووضح ذلك من خلال بعض المذكرات التي رفعها لفرنسا وإنجلترا ورد فعلهم تجاهها.
يشيد في المذكرة الأولى بدور بريطانيا ويناشدها دعم استقلال مصر، وفي المذكرة الأخرى يشيد بدور بونابرت الذي مد يده لمساعدة المصريين التعساء عندما جاء بحملته وحطم أغلالهم(؟)، ويناشده العمل على استقلال مصر الذي سيعود على مصر بالمصلحة العظمى والمجد لبونابرت، وهناك مذكرة أخرى مرفوعة للحكومة الفرنسية توضح أن استقلال مصر سيعود بالفائدة على فرنسا.
ويسعى الراوي لتبرئة الخائن بالتساؤل: من كاتب هذه المذكرات، وهي فوق ثقافة يعقوب ومستواه التعليمي؟ فرنسا وإنجلترا لم تلقيا بالاً لهذه المذكرات. (ص 55).
موت فجائي
وقد مثّل موت يعقوب الفجائي الغامض على ظهر الباخرة المتجهة إلى فرنسا بعد أيام قليلة من مغادرة مصر لغزاً كبيراً كما يعتقد الراوي، حيث مات عقب حديثه مع قبطان المركب الإنجليزي عن مشروع يضمن استقلال مصر، قيل: إنه مات من الحمى، وقيل: من الدوسنتاريا، والوثائق الفرنسية ترجح فرضية موته بالسم البطيء! (ص 59، 60)، ولكن حرص النص على شيطنة العثمانيين، فإنه يلقي عليهم بتهمة قتل يعقوب بالسمّ: «أعتقد أن العثمانيين هم الأبرع في القتل بالسم البطيء» (ص 61).
لا ينتهي أمر يعقوب بوفاته الغامضة، ولكن الراوي لشدة هيامه بالشخصية الخائنة يستدعي عدداً من تلاميذه ومعارفه (شخصيات حقيقية) ليشاركوا في مهرجان الاحتفاء بالحملة الفرنسية، ومجموعة الخونة بزعامة يعقوب، فالتلميذ شريف سعيد، ويعمل مخرجاً تلفزيونياً، ويرأس الآن القناة الوثائقية التي أطلقتها الشركة المتحدة للإعلام قبل شهور من كتابة هذا الفصل، وكان تلميذاً للراوي في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وينتمي إلى جيل كل شيء يدفعه «للخلف در»، يقابل أستاذه/ الراوي لأنه بصدد كتابة رواية تاريخية عن الحملة الفرنسية (ص 92)، فيتحدثان عن مصير المصريين (النصارى) الذين خرجوا مع الحملة الفرنسية بعد أن خانوا وطنهم، ومنهم إلياس بقطر، صاحب قاموس بقطر، وجبريل إبراهيم، وهما من أقارب يعقوب. (ص 92 – 94).
والكاتبة ضحى عاصي، بنت الشيخ مصطفى عاصي، الشيوعي وعضو حزب التجمع (توتو)، وتعمل مرشدة سياحية ومترجمة، وتعد لرواية تاريخية عن الحملة الفرنسية، أو عن يعقوب تحديداً (ص، 95)، وتميزها ضحكتها الشهيرة «كيف؟» (ص 96)، وتفكر في عنوان لروايتها هو «اشمل يا نصراني»! (ص 97)، وماجد كامل، الموظف في قاعة الدوريات بدار الكتب، وهو قارئ جيد، على عكس الموظفين الآخرين في الدار الذين لا يقرؤون، ويتصل بالراوي ليخبره بوجود أحد الكهنة وأخ له من سلالة يعقوب، وأولهما مات والآخر تنبأ بنهاية العالم، وغضبت عليه الكنيسة لأنها عدت كلامه هرطقة (ص 110).
ثم ينقل إليه أن الكاهن يسطس الأورشليمي مهتم بقصة يعقوب أيضاً، ويدافع عنه وينفي صفة الخيانة والعمالة لصالح الفرنسيين، وأن الجميع تعاون مع الفرنسيين بمن فيهم المشايخ! ويتجاهل أن اللعين كرنك في الرويعي وقتل شعبه، كما يقول الجبرتي.
ثم هناك حديث عن انتماء أقارب إلى مذاهب مختلفة وهو حشو لا يفيد الفكرة الأساسية ولا البناء الروائي (ص 111 – 112)، ثم هناك شخصية تبدو أفضل وطنية وتشير لأول مرة إلى وحشية الفرنسيين ودمويتهم في الصعيد، إنها شخصية ضياء القللي العنقاوي، خريج كلية الآثار، وسليل أشراف قنا، وأصل أسرته من وادي فاطمة بمكة المكرمة (ص 77)، وشيخ العرب همام هو الرمز الأكبر لهم، ويجمع الراوي بضياء البحث العلمي في تاريخ الصعيد الذي يتركز فيه الأقباط، ومقاومة الفرنسيين ومذابحهم للأهالي، وكانت هذه أول إشارة لجرائم فرنسا بعد 80 صفحة من حوالي 120 هي حجم النص. (ص، 79).
الفارس لاسكاريس
هناك شخصية استعمارية فرنسية، لها دور أساسي في توجهات يعقوب الخيانية، هو الفارس لاسكاريس، وكان يترجم بين يعقوب وقبطان السفينة البريطانية التي حملت الخونة إلى فرنسا بعد انسحاب الحملة، وهو شخصية مريبة مغرقة في الخيال (ص 51)، وقد تضمن كتاب هنري لورنس فصلاً عن لاسكاريس (ص 56)، وقد ولد في بيد مونت بسردينيا التابعة لإيطاليا، وينتمي مع أخيه إلى أخوية «فرسان مالطا» أو «فرسان المعبد»، وهي الفرقة التي أدت دوراً خطيراً في الحروب الصليبية.
وقد انضم لاسكاريس إلى الحملة الفرنسية وعمل معها في وظيفة معماري في الإدارة العامة لتصنيف وتوزيع بيوت المماليك المصادرة، ومن هنا بدأ تعارفه مع المعلم يعقوب، فكلاهما يعمل لحساب الغزاة الفرنسيين، وقد وصف نابليون لاسكاريس بالمجنون بسبب مشروعاته السياسية الخيالية، (ص 57)، وتحدث بعضهم عن حالات هياج وهلاوس سمعية وبصرية تنتابه.
في 10 يوليو 1800م، طرح مشروعاً يساعد على بقاء الاحتلال الفرنسي في مصر، ويقضي على المقاومة المصرية للفرنسيين الغزاة، برفع الطوائف الدينية إلى درجة واحدة من النفوذ السياسي (؟)، مما يساعد تلك الطوائف التي عذبها (!) الإسلام، وحطّ من شأنها، أن تزدهر على حسابه (ص 58)، ورفض الجنرال مينو هذا المشروع قائلاً: «أنه لا ينوي أن يكون زعيم طائفة» (ص 59).
مستعمرة دائمة
وقد اقترح لاسكاريس مع قرب خروج الحملة ضرورة ترك «جيب فرنسي» في مصر، ويتلخص الاقتراح في إرسال يعقوب مع بعض الجنود الفرنسيين و5 آلاف أو 6 آلاف من المسيحيين الشرقيين إلى النوبة لإنشاء مستعمرة دائمة هناك ومربحة بالنسبة لفرنسا (ص 59)، إذا عاد الجيش الفرنسي من جديد إلى مصر، ولكن مينو رفض هذا الاقتراح أيضاً.
ولأن الراوي يميل إلى فرضية منح لا سكاريس دور المغامر المهووس نفسياً، فقد كان من بين مشروعاته إعادة إحياء الدولة البيزنطية التي أسقطها العثمانيون (ص 87)، وإحياء استقلال جبل لبنان بمعرفة الأمير بشير الشهابي (ص 88)، وإذا كان الراوي يرى أن فرنسا لا تعير اهتماماً لمشروعات لاسكاريس (ص 88)، فإن فرنسا قد أسهمت بشكل ما لتحقيقها في القرن العشرين، حين أنشأت دولة لبنان، ودولة العلويين التي لم تستمر طويلاً، وقد عاد لاسكاريس إلى مصر في عهد محمد علي، وعلّم الخديوي إسماعيل، ومات عام 1822م.