اختارت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عنوان «طوفان الأقصى» للمعركة التي أطلقتها في 7 أكتوبر الماضي، التي استطاعت قلب الموازين في المنطقة، وغيرت المعادلات الكثيرة، وقد أكدت المقاومة في العديد من خطاباتها بعد المعركة مركزية المسجد في معركتها، إلى جانب عدد من القضايا الأخرى المتعلقة بالأسرى والاستيطان وغير ذلك.
وفي سياق تسليط الضوء على ما يعانيه المسجد من أخطار واعتداءات، وبيان مركزيته في المعركة التي تخوضها المقاومة حاليًا، وفي التفاعل الفلسطيني العام من خلال الهبات المتتالية، إذ يشكل المسجد الأقصى نقطة الصراع الأهم مع الاحتلال وأذرعه في القدس المحتلة، ويعمل الأخير على استهدافه بشكل مباشر في سياق تهويد المدينة المحتلة وتغيير هويتها، من خلال جملة من الأدوات والسياسات التهويديّة، في سياق تحقيق الوجود اليهودي الدائم داخل المسجد الأقصى، ونتناول في هذا المقال أبرز الإستراتيجيات التي تعمل عليها أذرع الاحتلال للسيطرة على المسجد والتضييق على مكوناته البشرية الإسلامية.
تغيير هوية القدس المحتلة العربية والإسلامية
قبل التفصيل في إستراتيجية الاحتلال لاستهداف المسجد الأقصى وتهويده، من المهم المرور على أبرز ما تقوم به سلطات الاحتلال لتحويل القدس المحتلة إلى مدينة يهودية المعالم والسكان، وجعلها مدينة طاردة للفلسطينيين، وتتركز أهداف الاحتلال على ما يأتي:
– تكثيف بناء المراكز والمعالم اليهودية لإعطاء الطابع اليهوديّ للمدينة، ومزاحمة أي معالم أصيلة تُشير إلى هوية المدينة العربية والإسلامية، وتغيير المظهر العام البانورامي للمعالم الأصيلة، من خلال بناء الكنس الضخمة، وبحسب مصادر فلسطينية تضم البلدة القديمة بمفردها نحو 100 كنيس ومعلم يهودي، زرعتها أذرع الاحتلال المختلفة منذ احتلال المدينة عام 1967م.
– تشويه وطمس معالم القدس العربية والإسلامية والحضارية المختلفة، وهو ما يتجلى من خلال الحفريات التي تطمس أي آثار عربية وإسلامها، إذ تقوم أطقم الاحتلال بإتلافها مباشرة، بينما تحافظ على آثار أخرى لتحاول الادعاء بأنها تعود لحقبة «المعبد».
– تهويد أسماء معالم القدس وشوارعها، وتصل أعداد الأماكن والشوارع الفلسطينيّة التي غيّرت سلطات الاحتلال أسماءها منذ الاحتلال وحتى اليوم أكثر من 22 ألف مكان وشارع ومَعْلم، وتتقصد سلطات الاحتلال إطلاق مسميات متعلقة بحاخامات، أو شخصيات توراتية.
– التضييق على المقدسات الإسلامية والمسيحية، ومحاولة الاحتلال فرض سيادته الكاملة على هذه المقدسات، من خلال جملة من الإجراءات والاعتداءات.
– المحافظة على سيادة الاحتلال على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، ولو بالقوة، ومن خلال فرض السيطرة عبر الحواجز والعناصر الأمنية.
– استهداف الهوية والثقافة والتراث والذاكرة في القدس.
موقع «الأقصى» في مجتمع الاحتلال
لا يشهد مجتمع الاحتلال إجماعًا كاملًا على العديد من القضايا مثلما يجتمع على ضرورة فرض السيطرة على القدس والمسجد الأقصى، إذ يشكل تهويد المدينة وتحويلها إلى عاصمة الكيان واحدًا من الثوابت لدى الفئات المركزية في المجتمع «الإسرائيلي»، وهي: القومية العلمانية، والمتدينون التقليديون، والصهيونية الدينيّة، وهي بطبيعة الحال تتفق على وضع القدس و«الأقصى» تحت السيادة «الإسرائيلية»، إلا أنها لا تتفق حول قضية أداء الطقوس الدينيّة داخل المسجد الأقصى، وهو تجلي العدوان الأخطر في الآونة الأخيرة، وأصبحت تؤدى بالتزامن مع الاقتحامات شبه اليومية، وتصاعدت بشكل محموم بالتزامن مع الأعياد اليهوديّة، وتقودها التيارات التي تُعرف بـ«الصهيونية الدينيّة»، وهي الشريكة الأساسية لنتنياهو في الحكومة «الإسرائيلية» الحالية.
ركائز الإستراتيجية الإحلاليّة لاستهداف «الأقصى»
وعلى أثر تنامي أطماع المنظمات المتطرفة في السيطرة على المسجد الأقصى، وتعزيز علاقاتها السياسية والأمنية، واستخدام هذه العلاقات في رفع مستوى الاعتداء على المسجد ومكوناته البشريّة، شهدت السنوات الماضية تصاعدًا في استهداف «الأقصى» ومكوناته البشرية، بشقيها الرسمي والشعبي، فقد استهدفت أذرع الاحتلال الوجود الفعلي البشري المتمثل بالمصلين والمرابطين، وعملت على تحجيم الوجود الإداري الذي يُشرف على المسجد ويعتني بشؤونه، وهو ما يُمكن أن نسميه أبرز الأهداف الحالية في تقليل أعداد القادمين إلى المسجد، والمرابطين داخله، في مقابل رفع حجم اقتحامات المسجد الأقصى وكثافتها.
ومن خلال استقراء سلوك الاحتلال وأذرعه المختلفة، تنقسم إستراتيجيته إلى مجموعة من الخطوات، فالخطوة الأولى ركزت أذرع الاحتلال عملها على إسقاط رمزية الأقصى، من خلال رفع حجم الاعتداءات بحق المسجد ومكوناته البشرية، واقتحامه بشكل شبه يومي، ورفع أعداد المقتحمين، ومحاولة الاستفادة من الانشغال العربي في العقد الماضي، ومن ثمّ موجات التطبيع، للاستفراد بـ«الأقصى»؛ وهو ما سقط بشكل مدوٍّ على أثر انطلاق «طوفان الأقصى».
أما خطوة الاحتلال الثانية فهي عبر محاولة فرض السيادة الكاملة على المسجد، وهي سيطرة بدأت أمام أبواب المسجد، عبر الحواجز المعدنية، وفرض القيود العمرية، واقتحام «الأقصى» بشكل عنيف ومتكرر، إضافة إلى التدخل في شؤونه، على غرار منع الترميم ومحاولة منع الاعتكاف في رمضان وغيرها، وتحاول سلطات الاحتلال أن تشمل هذه السيطرة كل ما في «الأقصى» من مصليات وساحات، من خلال فائض القوة والتغول.
ومع تنامي سيطرة الاحتلال على المسجد من خلال القوة، اتجه للمضي نحو الخطوة الثالثة؛ وهي تقسيم المسجد الأقصى زمانيًا، ومن ثمّ مكانيًا، وعلى الرغم من الحديث المتكرر بأن التقسيم الزماني أصبح أمرًا واقعًا، فإن الهبات الفلسطينية المتكررة تعيد التقسيم إلى المربع الأول، وتُجبر الاحتلال على إغلاق المسجد أمام الاقتحامات، وبالتوازي مع محاولات التقسيم هذه تسعى سلطات الاحتلال إلى انتزاع اعتراف دوليّ بحقّ اليهود في الصلاة بـ«الأقصى».
ومع تقاطع الكثير من الخطوات السابقة، يُمكن الحديث عن الخطوة الرابعة بأنها تركزت على تهويد أسفل المسجد الأقصى ومحيطه، من خلال عدد كبير من الحفريات التي أثّرت على المسجد وأضرت بأساساته، وجعلت الكثير من معالم المسجد آيلة إلى السقوط، مع تحويل الكثير من هذه الحفريات إلى قاعات تروج مزاعم الاحتلال وروايته، وتخدم مستوطنيه.
أما الخطوة الخامسة والأخيرة لدى الاحتلال تتركز في هدم المسجد الأقصى -لا قدر الله- وبناء «المعبد» المزعوم مكانه، وهي ذروة إستراتيجيتهم، والقمة التي يريدون الوصول إليها.
أخيرًا، أطلقت المقاومة هذه المعركة دفاعًا عن «الأقصى»، وفداءً له، واستمرار استهداف الاحتلال للمسجد سيؤدي إلى مزيد من التصعيد، إنْ في الوقت الحالي أو لاحقًا، وقد كرر الناطق العسكري باسم «القسام» أبو عبيدة تأكيد المقاومة بأن «الأقصى» قلب المعركة وشرارتها، لذلك كل مغامرة سيقوم بها الاحتلال هي «مقامرة»، وتركه لمنظماته المتطرفة تدنس «الأقصى»، وتقتحمه، وتؤدي طقوسها داخله، سيكون وبالًا كبيرًا عليه وعلى أمنه، فالطوفان من «الأقصى» وإليه.