التخاذل في اللغة والاصطلاح
التخاذل لغة: مصدر للفعل تخاذل؛ يقال: تخاذلوا؛ أي: خذل بعضهم بعضاً، و«خذل»: أصل يدل على ترك الشيء، والقعود عنه؛ يقال: خذله خذلاناً: إذا تخلى عنه وترك نصرته، وكل تارك: خاذل(1).
أما التخاذل اصطلاحاً: قال الثعلبي وغيره في تعريف الخذلان: «القعود عن النصرة، والإسلام للهلكة والمكروه»(2)، وقال أبو المظفر السمعاني في تعريف الخذلان: «الامتناع عن النصرة والإعانة عند الحاجة»(3).
ومن خلال ما سبق نستطيع أن نقول: التخاذل هو امتناع الناس عن إعانة بعضهم بعضاً، وقعود بعضهم عن نصرة بعض، وإسلام بعضهم بعضاً للهلكة والمكروه، مع القدرة على الإعانة والنصرة(4).
التخاذل امتناع الناس عن نصرة بعضهم وإسلامهم للهلكة والمكروه مع القدرة على الإعانة والنصرة
الخذلان خلق مذموم في القرآن والسُّنة
أولاً: القرآن الكريم:
– في قَولُه تعالى: (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ) (آل عمران: 122)، قال الطَّبريُّ: كان همُّهما الذي همَّا به من الفَشَلِ الانصِرافَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنينَ(5).
– وفي قَولُه تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر: 16)، ضرب الله تعالى في الآية الكريمة مثلاً للمنافقين واليهود في تخاذلهم، وتخلي بعضهم عن بعض(6).
– وفي قَولُه تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) (الحشر)؛ قال السَّعديُّ: تعجَّب الله من حال المنافقين الذين طمَّعوا إخوانهم من أهل الكتاب في نصرتهم وموالاتهم على المؤمنين، وأنهم يقولون لهم: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً)؛ أي: لا نطيع في عدم نصرتكم أحداً يخوفنا، (وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)؛ في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم، ولا يستكثر هذا عليهم؛ فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع مقارنهم، والنفاق والجبن يصحبهم؛ ولهذا كذبهم الله بقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(7).
ثانياً: السُّنة النبوية:
ممَّا جاء في تحذيرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من التَّخاذُلِ، والحَضِّ على ضِدِّه:
– عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله»(8)؛ «ولا يخذله»: من الخذلان، وهو ترك النصرة والإعانة، ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه، ولم يكن له عذر شرعي.
– وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمونَ تتكافأُ دماؤهُم ويسعى بذمَّتِهم أدناهُم ويردُّ عليهم أقصاهُم وهم يدٌ على من سواهم»(9)؛ أي: أن المسلمين لا يسعهم التخاذل، بل يعاون بعضهم بعضاً على أعدائهم.
-عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «انصُرْ أخاك ظالِماً أو مظلوماً»، فقال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصُرُه إذا كان مظلوماً، أفرأيتَ إذا كان ظالماً كيف أنصُرُه؟ قال: «تحجُزُه أو تمنَعُه من الظُّلمِ؛ فإنَّ ذلك نَصرُه»(10).
أسباب الخطاب التخاذلي
للوقوع في الخذلان أسباب كثيرة، منها:
1- الاستعانة بغير الله تعالى؛ قال ابن القيِّم: «فأعظم النَّاس خذلاناً من تعلَّق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم ممَّا حصل له ممَّن تعلَّق به، وهو معرض للزوال والفوات».
2- تنافُرُ قُلوبِ أصحاب الخطاب التخاذلي واختلافهم على أنفسهم، وذلك أصلُ كُلِّ فسادٍ، وموجِبُ كُلِّ تخاذُلٍ، قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
3- الأثَرةُ وتقديمُ حَظِّ النَّفسِ وإيثارُ الرَّاحةِ، وهي خلق مذموم ونقيصة مرفوضة في الإسلام بسبب أضرارها الكثيرة على المجتمع، فهي تفكك المجتمعات، فإذا شاعت الأثرة في مجتمع؛ تفتت، وفقد تماسكه.
من أسباب الخطاب التخاذلي العداوة والبغض والركون إلى الظالمين وأخطرها الهزيمة النفسية عند أصحابه
4- العَداوةُ والبُغضُ؛ قال ابنُ القَيِّمِ: «والبُغضُ والكراهةُ أصلُ كُلِّ تَركٍ ومَبدُؤه»، فأصحاب الخطاب التخاذلي تمتلئ قلوبهم بعداوة أصحاب المروءات والنجدات.
5- اختلاف الكلمة، والتفرق والتحزب؛ قال تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون)؛ أي: إنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر، بل لمجرد العكوف على المعتاد، فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه(11).
6- التنافس والتحاسد، والتكالب على الدنيا وكراهية الموت، والإغراق في اللهو وطلب الراحة.
7- الجبن وسوء الرأي، قال ابن القيم: «وصحة الرأي لقاح الشجاعة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر، وإن قعدا فالخذلان والخيبة»(12).
8- الرُّكونُ إلى الظَّالِمين؛ قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113).
9- التَّأثُّر بالبيئة، وغياب القدوة، واستشراء الشر، ويكفي هنا أن نشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه»(13).
10- الهزيمة النفسية عند أصحاب الخطاب التخاذلي؛ وهذا من أخطر أسباب الخطاب التخاذلي، ويعتبر الشعور بالهزيمة النفسية أخطر من الهزيمة العسكرية، وخطورته تكمن في كونه استعماراً للعقول والقلوب، قبل أن يكون استعماراً لخيرات الأرض ومقدراتها، وعلى شدة وقع الاستعمار العسكري، إلا أنه وسيلة قوية لإيقاظ الأمة من غفلتها، وإحياء حميّتها الدينية، وفي النهاية طال هذا الاستعمار أم قصر فإن مصيره الرحيل، أما الاستعمار النفسي فيتغلغل في النفوس دون أن تدرك أثره وخطره.
___________________________
(1) انظر: «الصحاح» للجوهري (4/ 1683)، «مقاييس اللغة» لابن فارس (2/ 165)، «تاج العروس» للزبيدي (28/ 401).
(2) «الكشف والبيان» للثعلبي (9/ 88)، «التفسير البسيط» للواحدي (6/ 125)، «معالم التنزيل» للبغوي (2/ 125).
(3) «تفسير القرآن» (1/ 373).
(4) الدرر السنية، موسوعة الأخلاق، بتصرف.
(5) جامع البيان في تفسير القرآن، الإمام الطبري (6/ 15).
(6) «المحرر الوجيز» لابن عطية (5/ 290)، «زاد المسير» لابن الجوزي (4/ 260)، بتصرف.
(7) «تيسير الكريم الرحمن»، ص 852، بتصرف.
(8) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
(9) أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4734)، وأحمد (993).
(10) صحيح البخاري (2444).
(11) انظر: «التحرير والتنوير» لابن عاشور (18/ 73).
(12) «الفوائد» لابن القيم (1/ 200).
(13) أخرجه البخاري (1385) مطولاً، ومسلم (2658) مطولاً باختلاف يسير.