ما أن تندلع حرب أو حملة ضد المسلمين في إحدى بقاع العالم، سواء أكانت حرب إبادة كما هي الحال فيما يقع في غزة، أو حملة ثقافية أو إعلامية على المقدسات الإسلامية ورموزها، حتى ينبعث أناس من جلدتنا من مرقدهم، ينحازون إلى رواية العدو، مظهرين الخذلان التام، بل ويحاولون تخذيل الناس وراءهم، يلعبون بالكلمات ويشككون في جدوى الجهاد والدفاع عن الأرض والعرض، عن الدين والوطن.
في حين نجد تنامي بروز أصوات حرة، من غير المسلمين، منصفة للمقاومة، يصل بهم تأييدهم للحق وتعاطفهم الإنساني إلى الاحتجاج ورفع الصوت سواء في الشوارع أو المؤسسات الرسمية.
يرصد أكاديميون مغاربة، في تصريحات لـ«المجتمع»، هذا الخطاب المتخاذل في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ويظهرون حججه الواهية وسبل مقاومته والرد عليه.
حقي: المسلم لا يجوز له أن يخذل أخاه في مثل هذه المواقف والأحداث
ينبه الأكاديمي المغربي أ.د. محمد حقي إلى خطورة الخطاب المتخاذل وما يجلبه على الأمة من ويلات، مستغرباً من وجود هذا الخطاب أصلاً بين المسلمين! لكنه يعود ليقول: إن معادن الرجال تظهر في وقت النوازل، التي تفصل في الناس بين متمسك بالحق، ومثبط ومتخاذل، ولا يقبل المتحدث ذاته أي خطاب متخاذل من أي مسلم، فكيف يكون ذلك من قبل ولاة الأمور، وبعض العلماء والدعاة، والفاعلين والمؤثرين في مختلف المجالات.
ويذكر حقي أن المسلم لا يجوز له أن يخذل أخاه في مثل هذه المواقف والأحداث، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبدالله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري أنهما قالا: «ما من مسلمٍ يَخذِلُ امرأً مسلماً في موضِعٍ تُنتهكُ فيه حُرمتُه ويُنتقَصُ فيه من عِرضِه؛ إلا خَذَلَه اللهُ في مواطنَ يُحبُ فيه نصرتَه، وما من امرئٍ ينصرُ مسلماً في موضعٍ يُنتقَصُ فيه من عرضِه، ويُنتهكُ فيه من حُرمتِه؛ إلا نصرَه اللهُ في مواطنَ يُحبُ فيه نصرتَه».
بدوره، يقول الأكاديمي المغربي أ.د. عبد الكبير الحميدي: إن تخاذل الحكام قد بدت إرهاصاته، من خلال هرولة الأنظمة العربية –في الأعوام الأخيرة– نحو التطبيع، بضغط من الولايات المتحدة والدول الغربية، غير أنه لم يكن متوقعاً أن يصل التخاذل إلى درجة العجز عن إدخال الدواء والغذاء والمساعدات الإنسانية إلى أهل غزة المحاصرين، عبر معبر رفح الذي يفترض أنه معبر عربي، في الوقت الذي تقيم فيه دول الغرب جسوراً جوية لدعم الكيان الصهيوني بأحدث الأسلحة والمعدات، وتوفر له الغطاء السياسي والدعم الدبلوماسي، لمزيد من القتل والتشريد والإرهاب!
حجج واهية
ويدعو أصحاب الخطاب المتخاذل ممن يلومون المقاومة الفلسطينية على ما قامت به في 7 أكتوبر 2023م، إلى اللجوء إلى القانون الدولي مرة، وإلى التفاوض المباشر مرة أخرى، والسير قدماً نحو التطبيع من أجل إحراج العدو والضغط عليه ووضعه أمام الأمر الواقع لضمان حقوق أهل فلسطين، كما يسوقون إلى أننا في حاجة إلى شخصية رمزية قادرة على التفاوض واسترجاع الحق دون قطرة دم، كما فعل غاندي، أو كان يسير إلى ذلك ياسر عرفات.
الحميدي: التخاذل مصيره الفشل بمزيد من صمود المقاومة والتفاف الشعب حولها
لكن من يتتبع هذه المسارات السلمية المبشر لها من قبل المتخاذلين، يعلم أن الواقع أثبت فشلها بداية من «أوسلو»، أو إطلاق مبادرة السلام العربية عام 2002م، وحتى قبل وجود «حماس»، ونهاية عند توقيع اتفاقيات التطبيع الثنائية والثلاثية، بل إن حدة الاستيطان زادت والاعتداء على المقدسات والأهالي تفاقمت، كما يظهر لكل عاقل غير منحاز.
ويذهب د. الحميدي إلى أن التخاذل وصل إلى درجة التحريض الإعلامي على المقاومة، من خلال سعي بعض الإعلام الرسمي العربي إلى شيطنة المقاومة الإسلامية الفلسطينية، ووسمها بالإرهاب، وتبني الرواية الصهيونية للحرب، وتغييب الرواية الفلسطينية، بشكل فج؛ مما أفقد هذا الإعلام الحد الأدنى من المهنية والموضوعية والانحياز لقضية الأمة الأولى.
ويبرز أن تخاذل النخب نوعان؛ نخب علمانية يسارية تحمل الغل والعداء لـ«حماس» والمقاومة الإسلامية، لأسباب أيديولوجية، ونخب دينية متشددة ناطقة باسم بعض الأنظمة العميلة، ومعادية لما تصفه بـ«المشروع الإخواني».
فيما يؤكد الأكاديمي المغربي د. رشيد لخضر أن خطاب التخاذل ارتبط عند فئة من أمتنا لا تعتبر فسلطين من أولى قضاياها، وهذه تجدها تتدثر تارة بزعم أولوية الاهتمام بالقضايا الوطنية على حساب قضايا الأمة، وتارة أخرى تعتبر أن فلسطين تخص أهلها، وهم أدرى بمصالحهم منا، وأحياناً أخرى تنادي بضرورة التعايش والسلام، وصولاً إلى لوم المقاومة التي تواجه العدوان الصهيوني.
ويبرز أن هذا الأمر تمت ملاحظته مجدداً بصيغة أخرى بعد اليوم الأول من معركة «طوفان الأقصى»، الذي عرف انتصاراً باهراً للمقاومة، لكن هذه الفئة لم يرق لها هذا الإنجاز غير المسبوق، فانبرت للمقاومة تلومها على عنفها، وعدم تقديرها لخطورة ما أقدمت عليه، وأنها لن تستطيع الدفاع عن الفلسطينيين، وهي تعرضهم للقتل والتشريد.
سبيل التحرر
ويتساءل المتخاذلون: إن كان «طوفان الأقصى» هو البديل، وتوقيته غير مناسب؟! مشيرين إلى الدمار الذي لحق بقطاع غزة بعده وقتل آلاف الأبرياء العزل، ولا يعلمون أن الدفاع عن الوطن لا يقاس بالربح والخسارة، وإنما بالدفاع عن العزة والكرامة ودحض العدو الذي سواء قاومته أو هدنت له، يتربص بأهل الأرض ويزداد عدوانه وتتوسع أطماعه في احتلال مزيد من الأراضي، كما تؤكده الأحداث.
لخضر: لا لوم على المقاومة فهي تنوب عن الأمة أجمع في دفاعها عن المقدسات
ولا يعلم هؤلاء أن عملية السابع من أكتوبر المجيدة، وإن كانت لا تقدر على استعادة الحقوق بشكل مباشر، فإنها استطاعت أن تكون خطوة أخرى في تحقيق النصر، وأن تعيد القضية الفلسطينية العادلة، التي كادت تنسى، إلى قلب اهتمام العالم، بل وحفرها في أذهان الأجيال الناشئة والصاعدة.
وما ينبغي تأكيده أن المقاومة، وفق رؤية الأكاديمي لخضر، إنما هي مقاومة لاحتلال صهيوني غاصب، اعتدى على الأرض والمقدسات والأرواح، ومارس كل أنواع الحصار والتنكيل والترويع، فجاءت عملية «طوفان الأقصى» كرد فعل تقول: لا لهذا الكيان المعتدي، ورداً لاعتبار المقدسات والحرمات التي دنسها جنود الاحتلال الصهيوني، وما رافق ذلك من اعتداء على حرائر النساء والشيوخ، وهي في هذا تدافع عن حقها في مواجهة الاحتلال؛ لذلك فلا لوم على المقاومة من هذه الناحية، بل إنها تنوب عن الأمة أجمع في دفاعها عن المقدسات.
ويطالب بدعم المقاومة، والدفاع عنها بكل الأشكال، من دعم مالي، وتكثيف التضامن بالمسيرات والوقفات، وبث الوعي في صفوف الناشئة من خلال التعريف بقضية فلسطين والمقاومة، وبذل جهد كبير في الإعلام والفضاءات الرقمية لرد شبهات التشكيك في المقاومة، وإعلاء خطاب الارتباط بقضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين.
وهو الأمر ذاته الذي يدعو إليه الأكاديمي حقي، بل يبرز ضرورة الضغط على الجهات الرسمية من خلال الاحتجاج السلمي لاتخاذ مواقف مشرفة إزاء ما يقع، والسعي إلى تقديم يد العون والمساعدة للمتضررين، كما يبرز أهمية صناعة رأي عام وطني وعالمي ونشر الوعي المعرفي والدعم الإعلامي للقضية الفلسطينية.
فيما يؤكد الأكاديمي الحميدي أن التخاذل والتصهين مصيره الفشل الذريع، إن شاء الله، بمزيد من صمود المقاومة وانتصاراتها، وبمزيد من التفاف الشعب الفلسطيني المرابط حول مقاومته الباسلة، ومشروعه الوطني الحقيقي، وباستمرار الحراك الشعبي العربي والإسلامي والعالمي الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني.