الإسلام يعزز مكانة الوطن، ويدعو لإعماره وازدهاره والدفاع عنه، ويكاد ولاء بعض المسلمين وحكامهم لأوطانهم يعلو على ولائهم للدين، بل فاق عند أدعياء القومية والوطنية.
ويرى البعض أن مصلحة القُطر الوطني فوق مصلحة أهل غزة المسلمين فيتركهم بلا مناصرة وهم في أشد الحاجة إليها، فكيف ينظر الإسلام للولاء للدين والولاء للوطن؟
عقد موالاة ومحبة
قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لمكَّةَ: «ما أطيبَكِ من بلدٍ وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منكِ ما سَكَنتُ غيرَكِ» (رواه الترمذي، صحيح)، فلم يمنع النبيَّ حبُ وطنِه أن يهاجر منه، ليحقق مصلحة الدين، وهكذا ترك المهاجرون ديارهم، واستقبلهم الأنصار.
الولاء في الإسلام للدين قبل الوطن ويكون التناصر والتعاطف على هذا الأساس
يقول الله سبحانه فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (الأنفال: 72)؛ «هذا عقد موالاة ومحبة، عقدها اللّه بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللّه، وتركوا أوطانهم للّه لأجل الجهاد في سبيل اللّه، والأنصار الذين آووا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم وأنفسهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض» (تفسير السعدي).
كلمة التوحيد أساس الولاء
إن الولاء في الإسلام للدين قبل الوطن، والهوية الإسلامية أعلى وأوثق من الانتماء إلى الوطن، ويكون التناصر والتعاطف على هذا الأساس؛ لأن من لوازم الإيمان أن يحب المؤمن المؤمنين وينتمي إليهم وإن نأت عنه ديارهم، ويتضامن معهم كالجسد الواحد، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة).
وقال صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثَلُ الجَسَدِ؛ إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعى له سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى» (رواه مسلم).
والدليل الأساس هو أن كلمة التوحيد التي تجمع المسلمين من شروطها ومدلولها الحب والولاء الذي فيه معاني المحبة والنصرة، والتناصر والإغاثة، والمساعدة والتأييد، والتحالف والتناصح، والقرب والاتفاق، والاتباع والمتابعة، والانتماء لأهل «لا إله إلا الله»، فمن شروط «لا إله إلا الله» مع العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص، وكذا المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلَّت عليه ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) (المائدة: 54).
بعضهم أولياء بعض
قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71)؛ جاء في تفسير (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ):
– القرطبي: قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف.
– ابن كثير: يتناصرون ويتعاضدون.
– البغوي: في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة.
– السعدي: في المحبة والموالاة، والانتماء.
– الطبري: بعضهم أنصارُ بعض وأعوانُهم.
أعلى رابطة تجمع أهل الإسلام ليست الدم والنسب وإنما رابطة الدين والعقيدة
وقال صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «المؤمِنونَ تتكافأُ دماؤُهمْ، وهُم يدٌ على مَن سِواهمْ، ويسعى بذمَّتهِم أدناهُم» (صحيح النسائي)، وقال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد.. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» (السلسلة الصحيحة).
إن أعلى رابطة تجمع أهل الإسلام في كل زمان ومكان، ليست رابطة الدم والنسب، وليست رابطة الأرض والوطن، وليست رابطة القبيلة والعشيرة، وليست رابطة اللون واللغة والأصل والعنصر، وإنما رابطة الدين والعقيدة؛ رابطة «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10)؛ «في الدين والحرمة لا في النسب، وأخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فأخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب» (تفسير القرطبي).
وكذلك المسلمون في بلاد الغرب فيجب أن يكون ولاؤهم للدين مقدماً على المواطنة؛ «يمكن اعتبار الولاء دوائر ومراتب، وبإمكانها أن تتواصل وتتفاعل بدلاً من أن تتصادم، فالولاء للدين أمر مسلّم به عند كل مسلم، وهو أعلى قمة هرم الولاءات، وهو لا يطرد الولاء للوطن بمفهوم المواطنة؛ إذ هو لا يتنافى مع الولاء للدين ما دام عقد المواطنة لا يشتمل على خروج من الدين، أو انصراف عن الشعائر، أو حجر على حرية المسلم أن يعيش إيمانه»(1).
نصرة من التاريخ
في «عام الرمادة» أصاب الناسَ في الجزيرة العربية مجاعةٌ شديدةٌ، فأسرع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى عمَّاله على البلاد الغنيَّة في الشام والعراق يستغيثهم، وأرسل إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه عامله بمصر: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي، سلام عليك، أما بعد، أفتراني هالكاً ومَن قِبلي وتعيش أنت ومَن قِبلك؟ فيا غوثاه! (ثلاثاً)، فكتب إليه عمرو بن العاص: لعبد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، أتاك الغوث.. لأبعثن إليك بعيراً أولها عندك وآخرها عندي»(2).
غزة تستغيث فهل من مُناصر مُلبٍّ لأهل الإسلام هناك بالإغاثة والمعونة والنجدة
لقد سطّر لنا التاريخُ غيرة ونخوة أجدادنا لنجدة المستضعفين المستغيثين، فأغاثوا الملهوف، ونصروا المظلوم، ابتداء من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة الأنصارية المسلمة التي تحرش بها اليهود في سوق بني قينقاع، فعمد صائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشف جسدها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فأجلاهم المسلمون عن المدينة بعد الحصار والتسليم(3).
مروراً برفع ظلم الروم وفارس عن أهل البلاد التي فتحها الأسلاف، إلى إغاثة المعتصم لامرأة عمورية التي صفعها رومي وسحلها إلى السجن فصرخت: وامعتصماه! فسار المعتصم من بغداد إلى عمورية وفتحها عنوة.
النُّصرة أنواع:
– بالدعاء: بصدق وإلحاح.
– النصرة الفقهية: ببيان الفقهاء للحكم الشرعي والتوعية بمفهوم نصرة الحق، وكيفية رفع الظلم.
– النصرة الإغاثية والطبية والمالية: بتوفير ما يحتاج إليه المنكوبون من ضرورات الحياة.
– النصرة العسكرية: وتجب على الدول.
– النصرة الإعلامية: للإخبار بالطغيان الواقع وتعرية جرائم المعتدين؛ بالوقفة والمسيرة، بالصوت والصورة، وبالقلم والريشة، وبالنثر والشعر، قال رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحسَّانَ بنِ ثابتٍ: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يزالُ يُؤيِّدُك ما نافَحْتَ عنِ اللهِ وعن رسولِه» (صحيح ابن حبان).
والآن.. غزة تستغيث، يا غوثاه! فهل من مناصر مُلبٍّ مُوالٍ لأهل الإسلام هناك بالإغاثة والمعونة والتقوية والنجدة؟
______________________
(1) عبدالله بن بيه، «الولاء بين الدين والمواطنة»، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد (12) (2008)، ص 108.
(2) ابن سعد، الطبقات الكبرى، بيروت: دار الكتب العلمية، 1990، ج3، ص 236.
(3) ابن هشام، السيرة النبوية، مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1995، ج2، ص 48.