قبل أيام كنا نقول لبعضنا بعضاً: مبارك عليكم الشهر، ونقول لأنفسنا: يا له من شهر طويل شديد الحر! وها قد انتهينا من العشر الأول وتجاوزنا نصف الشهر، ولم نشعر بالمعاناة التي كان البعض يتخوف منها، فيا لها من أيام سريعة!
ومن الأمور اللافتة للنظر هذا العام تزايد المصلين في المساجد، وحضورهم المبكر للصلاة، وكثرة الذين يبقون في المسجد لقراءة القرآن خصوصاً شريحة الشباب، كيف لا وهو الشهر الذي تصفد فيه الشياطين، تلك الشياطين التي تعشعش على القلوب، وتخنس الصدور، وتسيطر على العقول في اللاوعي، فتجد المسلم ذاته في رمضان يختلف عن غيره من الشهور، ويختلف أيضاً وهو صائم عما يكون وهو فاطر، فذلك فضل رمضان وفضل الصيام.
فعندما يتحرر المرء من قيود الغواية وأسر الشهوات وسيئ العادات؛ تكون النفوس متهيئة للسمو والتزكية، والقلوب ممهدة للنقاء والطهارة، والجنة تتزين لعباد الله المؤمنين العاملين في هذا الشهر المبارك، فطوبى للمشمرين، وطوبى للسابقين، وطوبى للمقربين.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
ومن خصائص الصيام أن الله عز وجل ادخر جزاءه عنده، فكيف بنا وعطاء الكريم سبحانه، ففي الحديث القدسي: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس اجتهاداً في هذا الشهر العظيم، «وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة».
ومن الأمور المهمة في فقه الصيام وحقيقته أن نلتزم أحكامه ونتمثل آدابه وسننه، وأن نحقق غاياته وثمراته، فلا بد من حفظ الجوارح من الآفات، وصيانتها عن المفطرات، وما الإمساك عن المفطرات إلا تمرين وتربية على الانقياد لأوامر الله تعالى في جميع شؤون الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
ومن غايات الصيام وثمراته تحقيق التقوى لله جلّ وعلا؛ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، ثم السعي لتحقيق الرشد في منهج حياتنا وأعمالنا وأخلاقنا؛ (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وأخيراً تحقيق الشكر لله تعالى على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وهدايته وتوفيقه؛ (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185).
ولعلي أحب أن أذكّر نفسي وأحبابنا بأن الخُلُق مقدم على كثير من الأمور، فما فائدة حامل القرآن بلا سلوك حسن؟! وما فائدة الصيام بلا صبر؟! فعلى الفرد أن يخالق الناس بخلق حسن، بالبر والصلة والإحسان، وسلامة الصدر وكفّ الأذى، والدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهداية الضال وتذكير الغافل، والصبر على المسيء والتراحم والتعاطف، حتى يكون المسلم مستحقاً للرحمة والمغفرة والعتق من النار.
خرج أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعس في المدينة بالليل، فرأى ناراً موقدة في خباء، فنادى: «يا أهل الضوء»، وكره أن يقول: يا أهل النار. (من كتاب الأذكياء لابن الجوزي).
___________________
د. عصام عبداللطيف الفليج.
المصدر: صحيفة الوطن، عام 2012م