ها قد أهلَّ علينا وأظلنا شهر رمضان المبارك، ضيف خفيف يستحق الانتباه منا؛ فأيامه معدودات! فالحمد لله أنعم الله علينا وشهدنا رمضان، فهناك من لم يشهده وحرم من بلوغ أجره وثوابه، سواء كان حياً أو ميتاً، فمن مات له عُذره، وأما من هو حي وميت قلبه فلم ينتبه لقدومه وتمر أيام الشهر عليه وهو في غفلة فحُرم ومن حُرم من أجرها وبركتها فهو المحروم حقاً وخاب وخسر!
هذا نبينا ﷺ قام مهنئاً صحابته برمضان فقال: «أتاكم شهرُ رمضانَ شهرٌ مباركٌ فرض اللهُ عليكم صيامَه تُفتَّحُ فيه أبوابُ السَّماءِ وتُغلَّقُ فيه أبوابُ الجحيمِ وتُغلُّ فيه مردةُ الشَّياطينِ، للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ من حُرم خيرَها فقد حُرم»، وفي حديث آخر رواه الطبراني كان ﷺ يقول للصحابة إذا دخل رمضان: «أتاكم شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه؛ فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، فأروا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله».
نلاحظ ونحن نقرأ في آيات الصيام لفظة «لعلكم» تكررت «لعلكم تتقون» «ولعلكم تشكرون»، «لعلكم ترشدون» في تناسق عجيب ثم تختم الآيات مرة ثانية بـ«لعلكم تتقون»، فما السر في ذلك؟! إنه الطريق المتوازن الذي يسلكه العبد لتحقيق الصيام الصحيح وثمراته من تقوى وشكر وذلك هو طريق الرشاد.
لقد جعل الله التقوى المعيار الأهم في القُرب منه سبحانه وإكرام العبد فقال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، والتقوى من أعظم ثمرات الصيام؛ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وسبيل الهداية للتقوى كتاب الله الذي نزل في شهر الصوم، بذلك بدأت سورة «البقرة» قال تعالى: (الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة)، فهو كتاب نزل لنفوس متقية، مصغية للحق عند الدعوة إليه، متبعة للنور إذ بان لها وأشرق، دون شك أو ريب.
والتقوى كما قال علماء اللغة من الوقاية، يقال: وقاه الله تعالى، ووقى نفسه السوء، كما قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، وهذا هو الهدف العام من صيام رمضان الوصول للتقوى لتكون بمثابة حماية وقاية وجدار سميك يقي المسلم عن الوقوع في المعاصي المستقبلية والحرص على التمسك بالأخلاق الكريمة خلال شهر كامل وموسم متواصل.
ولقد بيّن لنا رسول الكريم ﷺ ما يُفسد الصوم من السلوك الذميم، فقال صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق»، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه» (رواه البخاري).
ثم يأتي ذكر الشكر في آيات الصيام، قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185)، والشكر من عظيم ثمرات الصيام أيضاً التي يغفل عنها الكثير ويحسبونها شُكر الله باللسان وفقط، فالشكر عمل (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13)، فلنحرص على أن نكون من القليل الشاكر.
وهنا نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشدنا من هو الشاكر الحقيقي؟ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»، فمن كان طبعه هو كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله تعالى وترك الشكر له، فالله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس له، بذلك يتحقق الشكر ونكون من الشاكرين، وخير الناس أنفعهم للناس.
لقد جاءت آيات الصوم تتوالى لتقول لنا: هذا هو طريق الرشاد لمن يبحث عن إجابة الدعاء؟ ليستجيب لله فيستجيب القريب المجيب سبحانه لعبده الشاكر التقي صاحب القلب النقي، يقول الله تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وتأمل في (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، فمن استجاب رشد ومن أعرض ضل وكبد.
إنها دعوة للتأمل في آيات الله وكتابه في شهر القرآن، فطوبى لمن فتح مصحفه وهو ليس مشغولاً بجواله وجعل وقتاً محدداً له ويقرأ وليس هدفه متى ينتهي! يقول الحسن البصري: لا تنثروا القرآن نثر الدَقل ولا تهزوه هز الشعر، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكون همّ أحدكم أخر السورة.
والسعيد من جاهد أنفسنا في قطع العلائق عن كتاب الله وتدبر آياته، لذلك انزل قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (ص: 29)، وصولاً إلى تقوى الله وشكره، وهكذا يسير الصائم الفطن بقلبه مع جوارحه إلى الله بهذين الجناحين (التقوى والشكر).
في هذا السوق الرابح لا شك حين يتعرض لنفحات الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله في أيام دهره لنفحات ألا فتَعَرَّضُوا لها»، فيتفاعل مع أيام الله بتوازن جميل كنسيج واحد فلا يفصل بين علاقته بالله بتقواه، وعلاقته بالخلق بشكرهم، ولا يفصل الإيمان عن العمل ولا القلب عن الجسد من خلال الإحسان الى خلقه وشكرهم، ليعود المسلمون كجسد واحد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!
فلنغتنم هذه الأيام المعدودة لنصل الى نفوس زكية تتجه إلى الحق وتبتغيه، وتظل في بحث لطريق يرشدها إلى صراط مستقيم.