عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يرفُثْ ولا يصخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله، فليَقُلْ: إني امرؤ صائم، والذي نفسُ محمد بيده، لخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، للصائمِ فرحتانِ يفرحهما: إذا أفطر فرِح، وإذا لقِي ربه فرح بصومه» (رواه البخاري (1791)، ومسلم (1946)).
ولما كانت الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها، اختلف العلماء في قوله: «الصيام لي وأنا أجزي به» لماذا خص الصوم بذلك؟
وقد ذكر الحافظ ابن حجر من كلام أهل العلم عشرة أوجه في بيان معنى الحديث وسبب اختصاص الصوم بهذا الفضل، وأهم هذه الأوجه ما يلي:
1- أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: «يدع شهوته من أجلي»، وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقَلّ أن يسلم ما يظهر من شوب (يعني قد يخالطه شيء من الرياء) بخلاف الصوم.
2- أن المراد بقوله: «وأنا أجزي به» أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعیف حسناته، وقال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادیر ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا رواية مسلم (1151) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»؛ أي أجازي عليه جزاء كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
3- أن معنى قوله تعالى: «الصوم لي»؛ أي أنه أحب العبادات إليَّ والمقدم عندي، قال ابن عبد البر: كفى بقوله: «الصوم لي» فضلاً للصيام على سائر العبادات، وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصوم، فإنه لا مثل له» (رواه النسائي، وصححه الألباني).
4- أن الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وإن كانت البيوت كلها لله، قال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف، وقال الشيخ ابن عثيمين: وهذا الحديث الجليل يدل على فضيلة الصوم من وجهين:
الأول: أن الله اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال، وذلك لشرفه عنده، ومحبته له، وظهور الإخلاص له سبحانه فيه، لأنه سر بين العبد وربه لا يطلع عليه إلا الله، فإن الصائم يكون في الموضع الخالي من الناس متمكناً من تناول ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناوله؛ لأنه يعلم أن له رباً يطلع عليه في خلوته، وقد حرَّم عليه ذلك، فيتركه لله خوفاً من عقابه، ورغبة في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر الله له هذا الإخلاص، واختص صيامه لنفسه من بين سائر أعماله ولهذا قال: «يدع شهوته وطعامه من أجلي»، وتظهر فائدة هذا الاختصاص يوم القيامة كما قال سفيان بن عيينة: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى إذا لم يبق إلا الصوم يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم ويدخله الجنة بالصوم.
الثاني: أن الله قال في الصوم: «وأنا أجزي به»، فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أما الصوم فإن الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد، وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، والعطية بقدر معطيها، فيكون أجر الصائم عظيماً كثيراً بلا حساب.
والصيام صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة من الجوع والعطش وضعف البدن والنفس، فقد اجتمعت فيه أنواع الصبر الثلاثة، وتحقق أن يكون الصائم من الصابرين، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(1).
___________________________
(1) مجالس شهر رمضان (1/ 13)، بتصرف.