في حقبة زمنية تعج بالفتن والسماوات المفتوحة وانتزاع الحياء من صدور الأكثرية من الناس، صارت غيرة الرجال غريبة في تلك المجتمعات، وتتبرم النساء والفتيات من غيرة الآباء والأخوة والأزواج وتريد منها الفكاك ظناً منها أن ذلك يحد من حريتها وحقوقها المزعومة، فعادت تعاليم الدين غريبة لتضاهي المجتمعات الغربية في تكشفها، واستخدمت مفردات لا تنتمي لنا كمجتمعات مسلمة، فتخرج البنت غير عابئة في خروجها بتعاليم الدين وروح الأصالة الفطرية التي خلقها الله عز وجل عليها، لا تستحيي من سماع الناس صوتها بغير داع، لا تستحيي من بعض مظاهر التبرج واطلاع الغرباء عليها، أو ظهور ضحكتها أمام الأجانب، ومظاهر الإسفاف في ملابسها.
ومن العجب أن تخرج الفتاة أو الزوجة في صحبة الأب أو الزوج فتمارس تلك السلوكيات دون أن ينهرها أو يوجهها؛ مما يوحي بانعدام مروءة الرجل وغيرته.
مفهوم الغيرة المحمودة في الإسلام
الغيرة لغة كما قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: «ثَوَرانُ الغَضَبِ حمايةً على أكرَمِ الحُرَمِ، وأكثَرُ ما تُراعى في النِّساءِ»(1)، والغيرة محمودة من الرجال، وقد أشاد بها القرآن ودعا إليها وهي خلق أصحاب المروءة والكرامة وسد كافة الذرائع التي تثير الشهوات، فأمر سبحانه بغض البصر وتجنب الشبهات، وكان خلق الحياء هو الخلق الأول في الإسلام وأكثر الأخلاق إشادة في كتاب الله وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور)، فإبداء المرأة زينتها موقوف ليس على حريتها، وإنما موقوف على مراد الله وأمره سبحانه على فئات محددة هم محارمها الذين ذكرتهم الآية الكريمة
والغيرة المحمودة في الإسلام هي التي تمنع إثارة الغريزة، فتغلق الطريق للخطأ أو السقوط، هي الغيرة التي تحمي المجتمع من اشتعال نار الفتن بحجة تحرير المرأة وحريتها البغيضة من تعاليم دينها، فالله سبحانه الذي أمر بغض البصر للرجال، هو الله الذي أمر المرأة بإخفاء زينتها عنهم رغم غض أبصارهم، وهو الذي أمر بعدم الضرب بالأرجل سواء عن طريق صوت الخلخال بالأرجل، أو بكعوب الأحذية التي تصدر أصواتاً تلفت الأنظار وتلهب النفوس، ويحسب البعض أن الغيرة ظهرت بظهور الإسلام، وهو على العكس، فخلق الغيرة خلق فطري وضعه الله عز وجل في النفوس السوية، ففي المجتمعات الجاهلية كانت الحروب تشتعل غيرة علي عرض امرأة عربية.
الغيرة في السُّنة النبوية
اهتمت السُّنة النبوية بمسألة غيرة الرجال، وأكدت أنها من مكارم الأخلاق، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنُ يغارُ واللهُ أشدُّ غَيْرًا» (رواه مسلم)، وعن المغيرة بن شعبة قال، قال سعدُ بنُ عبادةَ: لو رأيتُ رجلًا مع امرأتي لضربتُه بالسيفِ غيرَ مُصْفِحٍ عنه، فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال: «أتعجبون من غَيْرَةِ سعدٍ؟ فواللهِ لأنا أغيَرُ منه، واللهُ أغيَرُ مني، من أجلِ غَيْرَةِ اللهِ حرَّمَ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، ولا شخصَ أغيَرُ من اللهِ، ولا شخصَ أحبَّ إليه العذرَ من اللهِ، من أجل ذلك بعث اللهُ المرسلين مبشِّرين ومنذرين، ولا شخص أحبَّ إليه المدحَةَ من اللهِ، من أجل ذلك وعدَ اللهُ الجنةَ»، وفي روايةٍ: «غيرُ مُصْفِحٍ، ولم يقل عنه» (رواه مسلم)
وعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّةَ؛ الدَّيُّوثُ، والرَّجِلَةُ من النِّساءِ، ومُدمنُ الخمرِ»، قالوا: يا رسولَ اللهِ، أما مدمنُ الخمرِ فقد عرفْناه، فما الدَّيُّوثُ؟ قال: «الذي لا يُبالي من دخل على أهلِه»، قلنا: فما الرَّجِلَةُ من النساءِ؟ قال: «التي تشبَّه بالرجالِ» (صحيح الترغيب).
عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (رواه أبو داوود والترمذي).
وعن أُمَّ سَلَمَةَ أم المؤمنين أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَيْمُونَةَ قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: احْتَجِبَا مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ» (أخرجه البخاري).
من مظاهر الغيرة المحمودة في زماننا
وللغيرة المحمودة مظاهر عديدة وصور مختلفة حسب وضع كل إنسان ومكانه، ومن هذه الصور:
– غيرة الأب على ابنته فيراقب سلوكها بنفسه، ليس لعدم الثقة بها، وإنما حفاظاً عليها، يتابع حجابها وصوتها وضحكاتها وصديقاتها، وتقوم الأم بتوجيهها وإعدادها لتكون أماً وزوجة تتبعل زوجها خير التبعل.
– غيرة الزوج على زوجته بالحفاظ على حيائها وتجنيبها الخروج للأسواق منفردة تزاحم الرجال، إلا إذا كانت أماكن مأمونة بعيداً عن الاختلاط، يكفيها حاجتها فلا تضطر للعمل إلا في ظروف ضيقة إذا كانت معلمة مثلاً أو طبيبة لا يقوم بعملها ويسد ثغرتها سواها.
– غيرة المسلم الخاطب على خطيبته حتى من نفسه، فلا يطلع على ما حرم الله عليه، ولا يخرج معها منفرداً، ولا يطلب منها التزين في حفل الخطبة أو العرس، بل يأمرها بالتزام آداب الإسلام والتستر عن الأعين، وعليها أن تقبل وتطيع وتسعد بأن وفقها الله لزوج يغار عليها ولا يتاجر بعرضه ليعجب الناس.
– غيرة الزوجة على زوجها، وهو مما لا بأس به، شرط ألا تقف تلك الغيرة حائلاً بينه وبين عمله أو تعطله، وعليه هو أن يراعي غيرتها، فعن أنس بن مالك قال: «كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عندَ بَعضِ نِسائِه، فأَرسلَتْ إِحْدى أُمَّهاتِ الْمُؤمِنينَ بِصَحْفةٍ فيها طَعامٌ، فضَربَتِ الَّتي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في بَيتِها يدَ الخادِمِ، فسَقَطَتِ الصَّحْفةُ، فانَفلَقتْ، فجَمعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فِلَقَ الصَّحفَةِ، ثُمَّ جعَلَ يَجمَعُ فيها الطَّعامَ الَّذي كان في الصَّحْفةِ، ويَقولُ: غارَتْ أُمُّكم! ثُمَّ حَبَسَ الخادِمَ حتَّى أُتِيَ بِصَحْفةٍ مِن عندِ الَّتي هوَ في بَيتِها، فَدفَع الصَّحْفةَ الصَّحيحةَ إلى الَّتي كُسِرت صَحفتُها، وأَمسَك المَكسورَةَ في بَيتِ الَّتي كَسَرَت» (رواه البخاري).
الغيرة دليل الرجولة
والغيرة والمحافظة دليل مروءة الرجل ورجولته، فليس من المروءة والرجولة أن يذهب الرجل لعمله تاركاً زوجته وبناته للسائق يذهب بهن وحدهن للمدارس أو الجامعة متعطرات كاسيات عاريات، وليس منها تساهل الأب مع خطيب الابنة وتركه في البيت أو خارجه بالساعات دون محرم، وليس منها الاختلاط في الأعراس والتكشف بحجة ليلة العمر، وليس منها الاختلاط بين الأسر مثل أولاد الأعمام والأخوال بحجة أنهم إخوة تربوا في بيت واحد، وليس منها أن ينشغل الرجل عن أهل بيته من النساء فيتركهن للذهاب للطبيب بمفردهن بدعوى الثقة والاطمئنان لهن، وليس منها الكثير من المظاهر التي تحدث في زماننا غير عابئين بحكم شرع أو بغيرة طبيعية، فالرجولة مسؤولية خطيرة تقع على عاتق الرجل تدفعه للانتباه لكل صغيرة وكبيرة إنقاذاً لرعيته من الوقوع فيما يغضب الله أو ينال من كرامتهن وهو لا يدري.
فالغيرة بسلوكها دليل رجولة الرجل وصلاحيته للارتباط بالابنة أو الأخت، ودخول البيوت والحفاظ على أعراضها، وقديماً قال عنترة مشيداً بغيرته على نساء قبيلته:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
__________________________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 347.