عن قيس بن أبي حازم، قال: قال سيدنا علي بن أبي طالب: كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً بالعمل، فإنه لن يقبل عمل إلا مع التقوى(1)، وكان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: «يا ليت شعري! من هذا المقبول منَّا فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه، أيها المقبول هنيئاً لك، أيها المحروم جبر الله مصيبتك»(2)، ففي هذا تأكيد على ضرورة الاهتمام بالعمل الصالح وحسن أدائه، حتى يرقى إلى درجة القبول، فكيف نتعرف على قبول الطاعات؟
هناك عدد من العلامات تبشر الإنسان بالقبول، وإن كانت لا تقطع به، فالقبول بشكل قطعي لا يعلمه إلا الله، ولا يمكن لأحد أن يجزم به إلا الله سبحانه وتعالى، فما هذه العلامات والمؤشرات التي تبشر الإنسان بالقبول؟
أولاً: الإخلاص لله تعالى في الأعمال:
فقد عاش المسلمون شهراً كاملاً في صيام وقيام، لكن لا يعلم بنية الصائم والقائم إلا الله، فمن أخلص في صومه كان الجزاء له من غير حساب، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «قال الله تعالى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به»، والمراد بقوله: «كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له»؛ أي: فيه حَظٌّ ومَدخَلٌ لاطِّلاعِ النَّاسِ عليه؛ فقدْ يَتعجَّلُ به ثَوابًا مِن النَّاسِ، ويَحُوزُ به حَظًّا مِن الدُّنيا، إلَّا الصِّيامَ؛ فإنَّه خالِصٌ لي، لا يَعلَمُ ثَوابَه المُترتِّبَ عليه غَيري، «وأنا أَجْزي به»؛ أي: أتولَّى جَزاءَه، وأنْفَرِدُ بعِلمِ مِقدارِ ثَوابِه، وتَضعيفِ حَسَناتِه.
وهكذا في كل العبادات، يجب أن يتخلص العبد من الشرك والرياء، ويقصد بهذا العمل وجه الله تعالى وحده، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ (البينة: 5).
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ يَقُولُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ(3)، وأخرج الطبري عن عبدالكريم الجزري، عن طاووس، قال: جاء رجل، فقال: يا نبيّ الله، إني أحبّ الجهاد في سبيل الله، وأحبّ أن يرى موطني ويرى مكاني، فأنـزل الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: 110)، فعلى المسلم أن يراجع نيته قبل عمله الذي يقوم به وبعده، فإن وجد من نفسه إخلاصاً؛ فليستبشر بالقبول، وإلا؛ فلا يلومن إلا نفسه.
ثانياً: تحقيق التقوى:
أكد الله تعالى في القرآن الكريم أن قبول الأعمال متوقف على تحقيق التقوى، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 27)، وإن من أهداف الصيام أن يصل المؤمن إلى التقوى، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)، والمتقون هم الذين يفعلون ما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم عنه، فمن أدى عبادة من العبادات، وأراد أن يتعرف على أمارات قبولها؛ فلينظر في أثرها على نفسه وفي حياته، فإن كانت حياته في الاستجابة لما أمر الله به والابتعاد عما نهى عنه، فهو من المتقين، الذين يستبشرون بقبول الأعمال.
ثالثاً: الخوف من عدم القبول:
المؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فقد أخرج الترمذي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون: 60) أهم الذين يَشرَبونَ الخَمرَ ويَسرِقونَ؟ قال: لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، أولئك الذين يسارِعونَ في الخيراتِ وهم لها سابِقونَ.
فالمسلم يصوم ويتصدق، لكنه يخشى من عدم القبول، ويخاف أن يحرم الأجر والثواب، ولهذا ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من المؤمنين أنهم يؤدون الأعمال كما ينبغي، ثم يصرحون بخوفهم من عدم القبول، فعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: لأَن أستيقن أن الله تقبل مني صَلَاة وَاحِدَة أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وما فيها(4)، وسُئل حاتم الأصم: كيف تخشع في صلاتك؟ قال: أقوم فأكبر للصلاة، وأتخيل الكعبة أمام عيني، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت من ورائي، ورسول الله يتأمل صلاتي، وأظنها آخر صلاة، فأكبر الله بتعظيم، وأقرأ بتدبر، وأركع بخضوع وأسجد بخضوع، وأجعل في صلاتي الخوف من الله والرجاء في رحمته، ثم أُسَلِّم ولا أدري أقبلت أم لا؟!(5)، والناظر في أحوال هؤلاء السلف يجد أنهم يؤكدون أن المسلم لا يغتر بعمله، ولا يظن أن عمله أصبح مقبولاً بمجرد أدائه، بل لا بد أن يظل قلبه معلقاً بربه، ولسانه منادياً بدعائه، عسى أن يجعله الله تعالى من المقبولين.
رابعاً: عدم الرجوع إلى الذنوب:
المسلم حين يترك المعاصي ويُقبِل على الله تعالى، ويداوم على الطاعة؛ لا يترك مجالاً لنفسه أو شيطانه أن يوسوس له بالرجوع إلى ما كان يفعله من ذنوب، حيث اشترط على نفسه عند التوبة ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، فكلما فعل المسلم طاعة، وأراد أن يتعرف على أمارة قبولها؛ فعليه أن يراجع نفسه، إن كانت طاعته قد شغلته عن ذنوبه، فلم يعد يفعلها؛ فليستبشر بالقبول والمغفرة.
خامساً: الإقبال على الطاعات والنفور من السيئات:
المسلم الذي انشغل بالعبادة وداوم عليها حتى أصبحت سهلة لديه، وخفيفة عليه، بل صار مستمتعاً بأدائها؛ لا يجد راحته ولذته إلا فيها، فيطمئن قلبه بذكر الله، عملاً بقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28)، بل إنه يفرح بطاعة الله؛ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس: 58)، فإذا حدث ذلك فإنه ينفر من السيئات وأهلها، فلا يصاحب إلا المؤمنين، ولا يفعل إلا ما أمر به الله رب العالمين، وهذا أثر من آثار الطاعة وعلامة على قبولها، حيث قال عز وجل: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)، أما من يفعل الطاعة في وقتها، وقلبه متعلق بالمعصية، وينتظر اللحظة التي يعود إليها فيها؛ فعليه أن يتوب إلى الله ويعود إليه، قال يحيى بن معاذ: «من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول في وجهه مسدود»(6).
سادساً: المداومة على فعل الطاعات:
إن الله تعالى ييسر الخير لمن صدقت نيته وصح عمله، فيجعل قدمه ثابتة على طاعة الله، بل يهيئ له طريق الخير، حيث قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ (الليل).
وقد أكد العلماء أن علامة قبول الطاعة فعلُ الطاعة بعدها، وفي هذا يقول عروة بن الزبير: «إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ أَخَوَاتٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ تَدُلُّ عَلَى أُخْتِهَا»(7)، وقال ابن القيم: الحسنات والسيئات آخذ بَعْضهَا برقاب بعض يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا ويثمر بَعْضهَا بعض، قَالَ بعض السّلف: إِن من ثَوَاب الْحَسَنَة الْحَسَنَة بعْدهَا وَإِن من عِقَاب السَّيئَة السَّيئَة بعْدهَا(8)، فإذا أراد المسلم أن يعرف علامة قبول طاعته؛ فلينظر إلى حاله، إن كان يشرع في عبادات جديدة أو يداوم على ما كان عليه من عمل صالح؛ فليستبشر بالقبول، وإن ترك ما كان عليه أو نقض ما فعله، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً؛ فعليه أن يتوب إلى الله وأن يلتزم طريق الهداية ويبتعد عن الغواية.
___________________
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، (10/ 388).
(2) لطائف المعارف، ابن رجب الحنبلي، ص 246.
(3) أخرجه النسائي بسند حسن (3140).
(4) الدر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي، (3/ 56).
(5) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، الزبيدي، (3/ 43).
(6) لطائف المعارف، ابن رجب الحنبلي، ص 385.
(7) المصنف، ابن أبي شيبة (36484).
(8) مفتاح دار السعادة، ابن القيم (1/299).