كل منا يشغله هَمّ الرزق وتؤرقه احتياجات البيت والأسرة ومطالبه الشخصية، فضلاً عما تحرزه وفرة المال من مكانة اجتماعية، وما تخلقه السعة من راحة ورضا يجعلان وجه المرء سمحاً وفؤاده زاكياً، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، ولكن كيف نحصّل الرزق؟ وما الأسباب الثابتة شرعاً التي تيسر للمسلم سبل الرزق والبركة والوفرة فيه.
قال الله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات: 22)، وقال أيضاً: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور) (الملك: 15).
وللجمع بين السعي والرجاء، هناك أسباب وردت في الكتاب والسُّنة تعين على تحصيل والرزق والبركة فيه، منها:
– التوبة:
لما كان مستقراً أن الرزق من عند الله تعالى وبيده خزائنه يؤتي من شاء ما شاء لا معقب لحكمه؛ بات الطريق إلى استجلاب الرزق لا شك ماراً بطاعته والخروج من معصيته والذنوب التي تغضب الرب وتعرقل الرزق وتؤخر الطلب، فيظل يرى الأمر بين يديه ولا يطاله.
يقول القرطبي: في هذه الآية التي في «هود»، وهي قوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (هود: 52) دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار(1).
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: إذا تبتم إلى الله تعالى واستغفرتموه وأطعتموه كثّر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأخرج لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين؛ أي: أعطاكم الأموال والبنين والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمر، وخللها بالأنهار الجارية بينها(2).
– التقوى:
التقوى هي الحرص على طاعة الله وخشيته في كل موقف، وأن تُنبت في قلبه عيناً لا تنام من خشية الله تعرف المعروف وتنكر المنكر، وهي من أهم سبل الرزق الحلال، فإن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب، فإذا أعطاك الآخرة بالتقوى فما أهون أمر الدنيا وأيسره وأقرب وصله؛ يقول تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق)، ويقول أيضاً: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96).
وفي هذا بيان وصلة بين التقوى وسعة الرزق لأسباب ليست مادية، وإنما تتعلق بالمنعم الواهب الرزاق ذي القوة المتين الذي يعطي المتقين والمحسنين ما لا يعطي أرباب الدنيا الحريصين عليها وهو سبحانه عنده ثواب الدنيا والآخرة.
ومن الأدلة من السُّنة النبوية على كون التقوى سبباً لاستجلاب الرزق والخير والبركة قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً»(3).
– التوكل على الله:
التوكل هو اعتماد القلب على الله وعدم انشغاله عنه وصرف حياته كلها في السعي الموحش المتوحش لطلب الرزق، وإنما عليه أن يتحلى بسكينة المطمئن الواثق أن رزقه سيأتيه ولو ركب الريح فراراً منه، والتوكل لا يعني ترك الأسباب والقعود عن السعي بالكلية.
قال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل في القلب؛ لأن التوكل عبادة قلبية مثل التوبة والإخلاص والإنابة واليقين(4).
– التفرغ للطاعة في أوقات مخصوصة:
التفرغ للطاعة وتخصيص أوقات للعبادة لا يتطرق إليها شيء من عمل الدنيا يتضرع فيها العبد إلى الله قاصداً الآخرة بكليته يريد وجه الله، وكأنه يعمل للدنيا كأنه يعيش أبداً، ويعمل للآخرة كأنه يموت من غده، وذلك هو ترجمة التوكل.
روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك»(5).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»(6).
وعن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم، لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً»(7).
– المتابعة بين الحج والعمرة:
وهو مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغته المباشرة، حيث تنفي المتابعة بين الحج والعمرة الفقر والذنوب، وهو وعد الله الحق الصادق.
عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة»(8).
– صلة الرحم:
صلة الأرحام من أعظم أسباب البركة في الرزق والعمر والسعة فيهما، وهذه الصلة يحث عليها الإسلام حتى وإن كانت هناك قطيعة أو جفاء من الطرف الآخر، وكذلك مع الأقارب من غير المسلمين لعظمها عند الله سبحانه وتعالى وكبير فضلها؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»(9).
– الإنفاق في سبيل الله:
في هذا عين اليقين، إذ كيف يكون الإنفاق وإتلاف المال سبباً في زيادته وكسبه، من أجل ذلك كان اليقين فيما عند الله صنعة الرابحين، كيف لا ولكل منفق خلف ولكل ممسك تلف؟! يقول الله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39).
وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً»(10).
– الإنفاق على أهل الخير لا سيما طلبة العلم:
الإنفاق على أهل الخير عظيم الفائدة من ناحية الفرد والمجتمع، فأثره متعدٍّ ونفعه لاحق ممتد عميم، وهو تهذيب للنفس من حيث لا يدري صاحبها.
روى أنس بن مالك قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: ليطلب العلم- والآخر يحترف -يعني: يكتسب الرزق لهما- فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلك ترزق به»(11).
ولا يدري العباد شيئاً من تدبير خالق الكون لشؤون عباده وتسخير كل منهم للآخر وسوق النفع والرزق إلى أصحابه على يد من ربما لا يعلم عنهم شيئاً.
– الإحسان إلى الفقراء والضعفاء:
عندما يتحدث المجربون يخبرون الأعاجيب حول الإحسان إلى الفقراء والضعفاء، وكيف يكون سبباً في البركة في العمر وسوق الرزق الآني منه والبعدي، وكأنه يقول لصاحبه: أنا نتيجة صنيعتك في فلان.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ابغوني في ضعفائكم -أي: من أراد أن يرضيني ويحسن إليَّ فليحسن إلى الضعفاء- ابغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم»(12).
– الزواج والدعاء بالرزق:
من أعظم أسباب استجلاب الرزق التي يغفل عنها كثير من الناس الزواج والدعاء به، والنصوص فيهما واضحة صريحة، فبالزواج يستمطر العبد رحمات ربه على الأطفال والنساء الذين يرعاهم الزوج؛ فيرزقه بهم ويوسع له ليوسع عليهم؛ قال الله تعالى: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور: 32)؛ وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بأن الرزق حليف من ابتغى الزواج، ولم يجعل الحالة المادية معياراً ومقياساً لتمرير الزيجة من عدمها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق على الله تعالى عون من نكح التماس العفاف عما حرم الله»(13)، وقوله: «ثلاثة حق على الله عونهم: وذكر الناكح يريد العفاف»(14).
__________________________
(1) تفسير القرطبي.
(2) تفسير ابن كثير.
(3) صحيح الترمذي (2344).
(4) مدارج السالكين.
(5) صحيح الترمذي (2466).
(6) السلسلة الصحيحة للألباني (996).
(7) صحيح الترغيب للألباني (3165).
(8) جامع المسانيد والسنن لابن كثير (5606).
(9) صحيح الجامع (5956).
(10) أخرجه البخاري (1442)، ومسلم (1010).
(11) أخرجه الترمذي (2345)، وابن عدي في «الكامل في الضعفاء» (2/ 264)، والحاكم (320).
(12) صحيح البخاري.
(13) أخرجه الترمذي (1655).
(14) أخرجه الترمذي (1655) واللفظ له، والنسائي (3218).