هنا، وهنالك.. نظرات مرتابة، وهمسات لائمة: لماذا ظلم الإسلام المرأة؟
وهنا، وهنالك.. ألسنة طالما تحذلقت، وأفواه كثيرًا ما تشدقت: لماذا يحظى الرجل بمكانة في الإسلام لا تحظى بها المرأة؟
لنتساءل: هل تمتدُّ الأماني خلف الزمن الطويل لإجبار بَـرِيْــرَة على شيء أَبَى نبيُّ الرحمة صلى الله عليه وسلم إجبارها عليه؟
لماذا رفضت بَرِيرَة شفاعته صلى الله عليه وسلم رغم إبدائها الرضوخ لأمره من فورها؟ فإن كان أمرًا رضخت، وإن كانت شفاعة رفضت، ولا حاجة لها في مغيث؟! ولمَ لم يأمرها صلى الله عليه وسلم رغم تصريحها بالطاعة إن أمر، ورغم شفقته الفياضة على قلب مغيث ورجولته؟
نشعر بمن يتساءلون: بَرِيرَة؟! ومغيث؟! ونفهم أن نسأل بدورنا: هل أتاكم نبأهما؟ اسمعوا وأنصفوا إن كنتم أهلاً للسمع والإنصاف.
بَرِيرَة مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً، هكذا عُـرِفت في كتب السيرة وأسفارها(1)، فلا نسب ولا حسب إلَّا نسبتها لأم المؤمنين عائشة، قال عروة بن الزبير أنَّ خالته عائشة أخبرته أن بَـرِيْـرَةَ جاءت تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها(2) شيئًا، فقالت لها: ارجعي إلى أهلك(3)، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فَذَكَرَتْ ذلك بَـرِيْـرَةُ لأهلها فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليكِ فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فَذَكَرَتْ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: «ابْـتَـاعي فأعتقي، فإنَّـما الولاء لمن أعتق».
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي على المنبر- فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق»(4).
بَرِيرَة، كما ورد في شرح الحديث، اسم مشتق من البَـرِير؛ وهو ثمر شجر الأراك، وقيل: بَرِيرَة من البرِّ كما أن رحيمة من الرحمة.
المهم، كانت بَرِيرَة مولاة لبعض أهل المدينة، وكانت تخدم السيدة عائشة رضي الله عنها قبل أن تبتاعها، ولما استعانت بَرِيرَة بعائشة، وأرادت عائشة أن تبتاعها اشترط سادتها أن تحتسب أم المؤمنين الأجر عند الله ويكون ولاؤها لهم.
شرط ترفضه الفطرة ويأباه المنطق على أي حال، فإذا طلبت أم المؤمنين عائشة أن يكون ولاء بَـرِيْــرَة لها إذا بذلت جميع مال المكاتبة فهل يحق لسادتها أن يشترطوا أن تبذل عائشة المال وتحتسبه، ويبقى ولاء بَـرِيْــرَة لهم؟!
وما كان صلى الله عليه وسلم ليدع الأمر يمرُّ دون أن يُـقوِّمه، ويعلم أمته أن تشترط في معاملاتها ما أقره كتاب الله عز وجل، ومن اشترط ما ليس فيه فليس له وإن اشترط مائة مرة، ويطلقها في سنته تالدة(5) خالدة: «شرط الله أحق وأوثق»، لينفع الله بها الإسلام والمسلمين كحكم صحيح، وقاعدة فقهية راسخة.
وابتاعت السيدة عائشة بَـرِيْــرَة وخَلُصَ لها ولاؤها، ثم لبَّت رضي الله عنها دواعي راحة نفسها، وهواتف قناعتها، ومدفوعة بنصيحة المحرر الأعظم صلى الله عليه وسلم التي تنتظم ثورته على الرق؛ «ابْتَاعي فأعتقي»، وبِخِلَّتيّ الجود، والبذل في سبيل الله المتأصلتين في نفسها أعتقتها.
وما أن سكنت بَرِيرَة من لهاث الرق، وسعار العبودية، واستقرت في بحبوحة الحرية، وكرامتها حتى أحست بدفعات من المشاعر تجذبها بقوة إلى الرغبة في كمال الحرية تسري في أغوارها، وتملك عليها كل أمرها، وتزيح عن صدرها أستارًا من الهم نسجتها سنوات الرق.
وكان زوجها مغيث(6) عبدًا لا يذكره لسان إلَّا قارئًا اسمه بوصمة العبودية، آمرًا إياه بأداء عمل، حيث كان عبدًا لأبي أحمد بن جحش، ولا يملك من أمره شيئًا، فكيف يكون قَيِّمًا على أمرها؟ فهل تفارقه؟ خَيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أُعتقتِ فأنتِ أَوْلَى بأمركِ ما لم يطأكِ، وما أحبُّ أن تفعلي».
بيد أن بَـرِيْــرَة بذلت جهدها، وأنفقت وسعها في رد نفسها عن هذا الخاطر فلانت نفسها لها حينًا وعنفت بها أحابين، وطفقت الرغبة في مفارقته تتعاظم في قلبها، وتتمطَّى وتتمدد في نفسها حتى أن سطوتها(7) لم تترك لها خيارًا فاختارت فراقه، وكان مغيث يُحبّها، ويمشى في طرقات المدينة وهو يبكى خلفها، بيد أنَّ كلاً منهما كان يَـجِّدُ في السعي خلف ما يراه صوابًـا.
فهل طَـعُـمَتْ بَرِيرَة رضي الله عنها مذاق الحرية فاستمرأته، ورامت إلى نيلها كاملة بأصلها وفرعها حتى لو أهدر هذا المذاق الذي ترجوه كاملًا غير منقوص شيئًـا من حنوِّها، وشفقتها، وسهولتها كامرأة؟
أم أن مغيثًـا أسرف عليها واشتط، فهَصَر(8) رغبتها فيه، ولما ملكت أمرها صرَّحت برغبتها الفوارة في فراقه؟
وهل كان مغيث يلتمس العزاء في مرآها، والسير خلفها باكيًا لأن فراقها فوق ما يطيق ويحتمل، ويدع فؤاده مشروخًا حتى لو أهدر ذلك شيئًـا من كرامته كرجل؟ الله أعلم.
ربما كانت بَرِيرَة ذات بصر وبصيرة، وتمدّ بصرها تواقًا إلى ما هو أبعد من حاضرها، وربما كان مغيث رقيقًا، حنونًا، مخلصًا ولا يرى، ولا يريد إلَّا ما يريده حاضره.
ولئن كانت هذه أو كانت تلك، فوجهتا الأمر سواء، المهم أنها آثرت على عشرته الفراق، وآثر هو عشرتها على الفراق، وكان لكل منهما هواتفه ودواعيه، وهل يستطيع حدسنا أن يشفع لأحدهما في هذا المشهد الذي يرويه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، فيقول: إن زوج بَـرِيْــرَة كان عبدًا يُقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث لبَـرِيْــرَة، ومن بُغض بَرِيرَة مغيثاً؟!»، واستشفع مغيث إليها بالنبي فقال صلى الله عليه وسلم لها: «لو رَاجَعْتِهِ؟، فقالت: يا رسول الله، تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّما أنا أشفع»، قالت: لا حاجة لي فيه(9).
وربما كان فراقهما خيرًا لها وله من أن تحيا معه مبغضة له ولأيامه، وما النتيجة المتوقعة إلَّا تكاثف طبقات الهمِّ الثخينة حولهما، ولماذا إذًا شُرِّع الطلاق؟
ورضي الله عن بَـرِيْــرَة وأنالها في دار الكرامة عنده ما طمحت إليه، ورضي عن مغيث وزوَّجه من الحوار العين ما تقر به عينه.
وتمضى السنون يجذب بعضها بعضاً، ويجلس عبدالملك بن مروان على كرسي الخلافة ويحدث من حوله ربما في تأثر: كنت أجالس بَـرِيْــرَة بالمدينة فكانت تقول لي: يا عبدالملك، إنِّي أرى فيك خِصالًا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليُدْفَع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملء محجمة(10) من دم يريقه من مسلم بغير حق»(11).
هذا الحديث ضعفه الهيثمي في المجمع، ولكن ابن حجر أقرَّه في فتح الباري في شرح حديث بَـرِيْــرَة الذي أسلفناه وقال هناك: كانت تخدم عائشة قبل أن تُـعْتَـق، وعاشت إلى خلافة معاوية، وتفرست في عبدالملك بن مروان أنه يلي الخلافة فبشرته بذلك وروى هو ذلك عنها.
يقرُّ الحافظ ابن حجر لها الحديث، ويقرُّ الحديث لها بأنها ترتفع إلى مستواه فهي:
أولًا: تتمتع بالفراسة فتدرك بمهارة خاصة بواطن الأمور بالظن الصائب، ولا يتمتع بتلكم المهارة إلَّا أُناس ذوو قدرات تندر وتعزّ.
وثانياً: أنها كانت نفسًا كبيرة، ارتفعت إلى مستوى واجباتها كصحابية جليلة، وبرزت بالنصيحة للكبار من حُكَّام هذه الأمة، مرشدة إياهم إلى أن إراقة ملء محجمة من دم مسلم بغير حق يدفع أحدهم عن باب الجنة.
وبقي على كل حاكم يحمل بين جنبيه نفسًا كبيرة أن ينتصح هامسًا: رضي الله عنك يا بَـرِيْــرَة، وجزاكِ عنى خيرًا، يا عتيقة عائشة(12).
_____________________________
(1) جمع سِفر، وهو الكتاب، أو الكتاب الكبير.
(2) المكاتبة بين العبد والسيد هي الاتفاق على مبلغ معين من المال إذا دفعه العبد صار حرًا.
(3) سادتك.
(4) حديث صحيح أخرجه البخاري (2561)، ومسلم (1504).
(5) القديمة والأصيلة والعريقة، مفرد تالدات، وتوالِد.
(6) ورد في أسد الغابة (6777) باسم مغيث، وفي الإصابة (10934) باسم معتب.
(7) سيطرتها على قلبها، وامتلاكها لأمرها.
(8) كَسَر.
(9) حديث صحيح البخاري (5283)، والنسائي في أدب القضاة (27).
(10) مفرد مَحَاجِم، وهي آلة تجرى بها عملية الحجامة، وهي مقوسة كالكأس توضع على الجلد لجذب الدم.
(11) أخرجه الطبراني في الكبير (24/ 205)، والهيثمي في المجمع (7/ 298)، وانظر: مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 61.
(12) الإصابة (10934)، وأسد الغابة (6777)، سير أعلام النبلاء (2/ 300).