برغم تنصيص الوحي على موضوع السُّنن في غير موضعٍ من سياق الذِّكر الحكيم، وبرغم أنَّ حركة التحضر والتمدن والعمران المتنامي في مختلف البيئات الإسلامية عبر العصور قد استندت في سياقها العام إلى قوانين الوجود وسُننه ونواميسه المستلهَمَةِ من كتاب الوحي المسطور ومن كتاب الكون المنظور؛ فإن فكرة السنن، على صعيد تراثنا المكتوب، قد ظلت مطوية بين سطور الدراسات الإسلامية، متوزعة على مختلف التخصصات ما بين خَطْرةٍ أو فكرةٍ هنا وبين شطرة أو فقرةٍ هناك، وهو ما ينمُّ عن أنَّ فهماً نخبوياً بدا مستوعباً، على نحوٍ ما، فقه السنن النفسية والاجتماعية والآفاقية، مُتفَهِّماً مركزية دورها في تطوير الحياة وتحضر المجتمعات الإسلامية عبر العصور والمصور.
وفي تقديرنا أنَّ علم السنن، وإنْ كان في غابر القرون زاوياً مهجوراً غيرَ محفولٍ به في مدونات تراثنا الإسلامي، لكنه كان كامناً في فلسفات العلوم، وكان روحاً سارياً في وجدان العلماء بطريقة جعلته أقرب ما يكون إلى سليقتهم وبديهتهم، حاضراً في تصوراتهم ومسالكهم، دون استظهارٍ يرقى إلى مستوى التأليف المتخصص! وهو الأمر الذي يتعذر معه تتبُّع فكرة السنن في المؤلفات الإسلامية طيلةَ قرونٍ عديدة!
وفي المقابل، حين نتأمّل المنجز الحضاري الإسلامي بقواعده النظرية وتجلياته التطبيقية وخصوصياته القيمية، سنجد أنَّ سُنَنَ الله وقوانينه في المجتمعات والآفاق كانت مصدر إلهام محوري في تسيير منظومة الحياة الإسلامية وتيسير حركتها عبر العصور؛ الأمر الذي يجعل من اهتمام متأخري العلماء المسلمين بالسنن وعنايتهم بنظمها علماً مستقلاً، وتيسير فهمها، والتأكيد على تداولها وتعاطيها زاداً للحياة بمختلف وجوهها؛ لهو أبرز دليلٍ على الشعور بمدى فداحة افتقادها بعد أن كانت متجلية ملموسة في مسيرة حياة السابقين!
وبناء على المعطيات المتوفرة من عمليات المسح الببليوغرافي، نجد أن دراسة فقه السنن لم تلق الاهتمام اللائق إلاّ مع بواكير الكتابات الأولى للشيخين محمد عبده، ومحمد رشيد رضا؛ اللذَيْنِ يُعزَى إليهما فَضْلُ تأسيسِ ما يمكن تسميته «علم السنن».
ولعل ما أعطى تلك الأفكار التأسيسية زخماً وفاعلية، أنَّ الحركات الإصلاحية التي ظهرت في أعقاب ضياع الخلافة الإسلامية (1341هـ/ 1924م) قد راحت تبحث في الأسباب الموضوعية لذلك التبدد الحضاري؛ الأمر الذي أسهم في توسيع دوائر النقاش ومساحات التداول الفكري حول موضوع السنن عبر مختلف الأنساق العلمية الثقافية في المحيطين العربي والإسلامي، وتعزيز القناعات النخبوية بفاعلية المنهج السنني على مختلف المسارات التي تحاول استعادة الدور الحضاري الإسلامي المفقود!
وفي أصداء التداعيات التي أعقبت سقوط دولة الخلافة العثمانية، وتضاؤل الآمال في إنتاج فكرة الجامعة الإسلامية، راحت بعض الكتابات المعاصرة للأحداث تنبش تحت ركام الأحداث بمنطق السنن تتحرى العلل وتبحث في أسباب ذلك الترنُّح الذي تداعت له إرادة المجتمعات وتساقطت معه هيبة الدولة والأمة! الأمر الذي ملأ آفاق الوجود الإسلامية بالتساؤلات التي أثارت قريحة الغيورين بحثاً عن تفسيرات علمية معقولة لنوبة الغيوبة الحضارية والانتكاسة التي انتابت الأمة المسلمة بمختلف أقطارها أفراداً وجماعات هيئات ومؤسسات وحكومات.
وفي هذا السياق، سطَّرَ شكيب أرسلان كتاباته الأخيرة تمهيداً لطرح السؤال الكبير الأكثر أهمية في سياق استعراضه «حاضر العالم الإسلامي»: «لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟»، ولم تكن تلك التساؤلات سوى صدى فكر مدرسة المنار السُّننية، تلك المدرسة التي لازم أرسلانُ أئمتها وطلائع روّادها، فجاءت كتاباته الأخيرة متأثرة بفكر تلك المدرسة أيّما تأثُّر!
ولقد كانت أفكار سيد قطب مثالاً متطوراً لأفكار تلك المدرسة الإصلاحية؛ فلا نكاد نقرأ كتاباً له إلا والتماعات السنن تكشف للسالكين سبيل الإصلاح عن معانٍ عميقة الدلالات جليلة القدر ذات خواص إيجابية للتفاعل مع الفواعل الأخرى من إيجاد مخارج للأمة من أزمتها الحضارية.
ويمكننا القول: إنَّ فقه السنن عند الشهيد سيد قطب قد جاء مُتخلِّلاً كافة مؤلفاته وكامناً بين سطورها، مستهدِفاً ترويج المعرفة السننية بين مختلف شرائح مستهلكي الثقافة العربية والإسلامية، وقد أبلى في ذلك بلاء حسناً! فضلاً عمّا قدّمه من مقاربات فكرية وشرعية كانت بالغة التأثير في تطوير فكر السنن، لكنَّ منيته لم تمهله في إخراج مشروع سُننَنِيٍّ متكامل السمات والخصائص.
وقد بدت أقدار الله الحكيمة مؤذنة بظهور مفكر مسلم من طراز فريد قد أسهم في تدعيم أركان علم السنن وتقريبه إلى كينونة العلم المستقل، إنه مالك بن نبي.
وقد جاءت أفكار بن نبي لتمثل سمة جوهرية لمرحلة تجديدية في مجال القراءات السننية للكون والحياة والإنسان؛ وقد كانت تلك الأفكار محاولة جادة من أجل وضع حَدٍّ للنزيف الحضاري الإسلامي، ذلك الذي جعلت مشكلاته تتفاقم مع فقدان الضمّادات الحاقنة لذلك النزيف الذي أوشكت به طاقة الأمة على التبدُّدِ والنفاد، وراحت تساؤلات بن نبي تزداد إلحاحاً، يوماً بعد يوم، بحثاً عن الحل الحضاري الإسلامي، ولا سيما بعد تداعيات الثقة المتبددة في كفاءة المشروعات القومية داخل الأقطار العربية والإسلامية.
ولم تتوقف أهمية أفكار بن نبي عند حدود تشخيص الحالة الحضارية الإسلامية ومآلاتها على أضواء السنن التفسيرية والقوانين التي تصف تلك الحالة من جوانبَ مختلفة، بل قدَّم بن نبي نسقاً من التفكير المتطور في عمقه، والعميق في تطوره، واضعاً مصفوفة الحلول في خدمة موصوفة المشكلات.
ولعل من أبرز ما أكسب أفكار بن نبي عن السنن دقة وإحكاماً، سواء في عرضه القضايا وتشخيصه العلل والأدواء أو في توصيفه المشكلات، أنها كانت تصدر عن الوحي، فاكتسبت منجزه الفكري احتراماً علمياً وتقديراً فضلاً عن منهجيتها الرصينة؛ فقد توسَّل بالسنن كأداة كاشفة عن مكامن العلل وأسباب التعافي وقوانين النهوض الإيجابي إلى مواجهة التحديات بجهود البناء والنماء المتطور.
ولقد كان لهندسة السنن، وفق رؤية مالك بن نبي، دور في إعادة تقنين العلاقات بين «عالم الأشخاص» و«عالم الأفكار» و«عالم الأشياء»؛ إذْ قدم رؤية تستجمع الخلاصات التأصيلية في حقل السنن وبلورتها في صيغٍ تفعيلية من شأنها الإسهام في تخليق معطيات القدرة على استئناف الفعل الحضاري على نَسَقٍ قانوني سليم من الابتذال الفكري أو الاختلال المنهجي.
ثم تتابعت من بعد ذلك الكتابات التي تنوعت ما بين مؤلفات فكرية وأخرى دراسات أكاديمية ومقالات تفاوتت كَمِّياً ونوعياً، التي جاءت خيوطاً مغزولة بغرض تقديم صورة متكاملة عن موضوع السنن، وتحاول استبطان السنن، الإلهية والربوبية، واستنباط قوانينها الجزئية، وتقصيد رسالتها في المجال الاستخلافي العام.
وبطبيعة الحال، جعلت الدراسات الإسلامية والأعمال الفكرية تشتبك مع الفكر السنني بصورة أو بأخرى خلال السنين التالية، وفي مختلف البيئات الفكرية والأكاديمية والثقافية العامة، حتى لقد صار موضوع السنن، من فرط اهتمام الباحثين فيه وشغفهم به، أحد المسارات التي صارت مجالاً للتداول الثقافي العام، فتألفت الكتب ودُبِّجَتْ المقالات، وقدمت الخطط البحثية في حقل الدراسات الأكاديمية العليا؛ بغرض ملء الفراغات الحادثة بحقل الدراسات المعنية بموضوع السنن؛ وبرغم ذلك، سنلاحظ بعض العشوائية التي تتخلل تلك الجهود، وقد يكون ثمة عُذرٌ في ذلك لأسباب ثلاثة:
أولها: عدم وجود خريطة طريق تبين المطروق من الموضوعات وطبيعة هذا التطرق وخلاصته، وذلك حتى يتسنى للجهود التالية البناء بوعي على سوابقها.
ثانيها: الافتقار إلى المنهجيات التأسيسية والقواعد التي تنضبط بها مسيرة النشاط الفكري والأكاديمي حتى تخلص في إحدى مراحلها إلى كينونة علمية سننية مستقلة بذاتها، متكاملة الأركان والخصائص والسمات واضحة الرؤى والوسائل والأهداف والغايات.
ثالثها: افتقاد الربط المنهجي العملي بين فقه التوحيد وفقه السنن.
ولا يسعنا في ختمة المقال سوى التنويه بأنَّ تكامل فقه السنن مع فقه التوحيد وفقه الترشيد والمقاربة والتسديد هو ما يتوِّج العقلانية المؤمنة بتخليق معطيات القدرة على استئناف الفعل الحضاري من جديد.