رحلوا بالملايين، تركوا أحبابهم وأوطانهم، غادروها من كل أصقاع الأرض ليتوجهوا إلى هناك، وما أدراك ما هناك، مكان تتجلى فيه النفحات وتكثر فيه البركات وتتضاعف فيه الحسنات، موسم للطاعات ومكان للخيرات.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، وصلوها مكة التي بها أول بيت وضع لعبادة الله، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران 96).
مكة مهبط الوحي وقرة العيون، ما أطيبها وأطيب أرضها، أحب البلاد إلى الله، فيها ينشرح الصدر وبها تطمئن النفس وتسمو الروح.
مكة كم تهواها القلوب وفي عشقها تذوب، تتمنى ألا تفارقها وألا تحرم من زيارتها كل عام، الخليل إبراهيم عليه السلام استودعها زوجه الودود ووليده الحبيب الذي جاءه على كبر، في تلك البقعة المباركة تركهم استجابة لأمر الله تعالى، ودعاء وهو يودعهم: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37).
غادرهم وتركهم بذلك الوادي، صحراء قاحلة، ورمال حارقة، فماذا سيجدون وكيف سيعشون؟ وأيقنت هاجر أن الذي جاء بها إلى هذه الأرض لن يضيعها، نفد الزاد، عطش الرضيع وألهبته حرارة الجوع وصرخ باكياً، وبكى قلب الأم الحانية دماً على دموع طفلها الحبيب، قلبت بصرها في الأنحاء والتفتت يمنة ويسرة فلم تر إنساً ولم تسمع همساً، وانطلقت هاجر يحدوها الأمل ويدفعها حسن الظن بالله وجميل التوكل عليه، انطلقت تسعى بين الصفا والمروة، مرة، اثنتين، ثلاث.. سبع مرات، سمعت، نعم لقد سمعت صوت انفجار، خرير، إنه الماء، وكانت زمزم جائزة الله لهاجر المتوكلة الصابرة المحتسبة، بل كانت زمزم وستظل ماء مباركاً للزائرين وهدية طيبة من الحجاج إلى المقيمين.
إنها مكة يا سادة، فيا أيها الراحلون إليها قلوبنا راحلة معكم وعيوننا ترنو شوقاً إلى تلك المرابع الطيبة.
رويدك يا من أنت بين جنباتها أقدامك تخطو على خطى المرسلين من آدم إلى النبي الخاتم صلوات ربي عليهم أجمعين، رحلوا إليها وقصدوها وتعطروا بشذاها.
روعة المكان وعظمة الزمان تحلق بك وتنقلك في رحلة تخرق بك جدار الزمن لتضعك في مشهد ما أبهاه وما أروعه، الأب إبراهيم الأواه الحليم عليه السلام، والابن الصابر المطيع المفتدى بالذبح العظيم، صار شاباً، اشتد عوده وعظمت همته، ها هما يرفعان القواعد من البيت ويبنيان الكعبة المشرفة في مكة الطاهرة، والآن لنستمع إليهما وهما يرددان الدعوات الطيبات المباركات، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {128} رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة).
انقضت أعوام وأعوام، ومرت أزمان وأزمان، وتحققت الدعوة وهناك من أرض مكة المباركة وفي رحابها العطرة كان العالم، كل العالم على موعد مع مولد نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيا لشرف مكة وهي تحتضن بين أرجائها أعظم الخلق وإمام الرسل!
هناك كان يعيش مع قومه بخلقه الرفيع وقلبه المحب وهم في ظلمات الجهل غارقون وفي غيهم يعمهون!
وهو في خلواته مع ربه يدعوه أن يهديه سواء السبيل ويمده بالفرقان المبين، وكانت مكة مع موعد لتنزل وحي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وصارت مكة نوراً على نور.
أيها الحبيب، توقف رويداً في محطات ومحطات، الرحلة ليست سهلة، إن أولئك الذين لقبوه بالصادق الأمين خونوه وبدعوه، بالجنون رموه وبالكذب اتهموه، شنوا عليه حرباً لا هوادة فيها، عذبوا أتباعه وشوهوه دعوته، قاطعوا، جوعوه، حاولوا مراراً أن يقتلوه ومن هذه الأرض الطيبة أخرجوه وعنها هجروه.
تمهل وأنت تسير في فجاج مكة وبين أزقتها وأنت تطوف بالبيت العتيق، تذكر الرحمة المهداة صلوات ربي وسلامه عليه وهو يسير في جنباتها بدعوته المباركة وتأمل في كم التضحيات التي قدمها لإعلاء كلمة الله تعالى، المواضع، المواقع تشهد له وتروي سيرته العطرة في تلك الربوع الطيبة.
وعندما تلفحك مكة برمضاها وتحرقك بلهيب شمسها، تذكر أنه بأبي هو وأمي جاع في شعبها لما حاصروه وتألم لما آذوه، ونزف قلبه من ظلمهم، لكنه ظل صاحب الخلق العظيم يدفع بالتي هي أحسن ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
هناك حيث أنت الآن عاش ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم هو وتلك الثلة المباركة من صحبه الكرام، في فجاج مكة العامرة سطروا أعظم ملحمة للصبر والحب لله ولرسالته السامية، عذبوا، شردوا، ظلموا، هجروا وأخرجوا من ديارهم بغير حق، لكنهم كانوا كالجبال الراسيات لم يتزعزعوا عن مبادئهم ولم يهادنوا على توابثهم، قهروا أولئك المتجبرين بصبرهم وانتصروا عليهم بعظمة إيمانهم.
ها هم يعودون إليها، مكة، طاقت نفوسهم لذلك اليوم، مكة، ما استطاعوا عنها صبراً، من طيبة الطيبة، المدينة المنورة عادوا إليها، لكنهم عادوا منتصرين فاتحين، انتصر الحق وعلت رايته ودوت صيحات التكبير وارتفع الأذان في بطاح البلد الأمين.
مر عام وعام وها هو الحبيب يؤدي مناسك الحج في حجة الوداع ويأمرنا: «خذوا عني مناسككم»، ويخطب تلك الخطبة البليغة التي تضع قواعد احترام الإنسان وقوانين الحقوق الإنسانية وتؤسس للمساواة والعدل والإحسان.
إنه الحج الرحلة النورانية المباركة، عبادات في عبادة ورحلات في رحلة، معارف وأنوار، تأملات وأسرار، يقول الله عنه في كتابه الكريم: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27)، ويقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة: 197).
تذكر، تأمل، تفكر، إنها رحلة الحج وهي أعظم من أن تكون مجرد مظاهر وطقوس، إنها رحلات ورحلات، فيها نفحات وكرامات، معها تعيش قصة الدعوة وسيرة الإيمان مع رسل الرحمن وصفوة أهل الحق، هناك تقترب أكثر من الرب المجيب الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد.
هناك زمان مبارك ومكان مبارك، قلوب عطشى تريد أن ترتوي من نبع الحق ونفوس تريد أن ترسو في زوايا السكينة وترتاح في ساحات الطمأنينة.
أخي الكريم، لقد تركت أموالك، تجارتك، أبناءك، وطنك، وجئت إلى مولاك قاصداً وأنت لا تظن به إلا خيراً، فارفع إليه أكف الضراعة وادعه أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً لنكون قدوة للعالمين وأهلاً للانتماء إلى هذا الدين.