بين أداء الشعائر حركياً واستشعار معانيها وقيمها جوهر يتمثل في فهم مقاصدها والإخلاص لله عز وجل في أدائها، وهو ما ينطبق على مناسك الحج، التي يبدأ أداؤها بعد ساعات، وهي تحمل معها تذكرة سنوية بأن الحياة ليست سوى رحلة نحو الله تعالى، وأن كل خطوة نخطوها في هذه الرحلة يجب أن تكون مليئة بالإيمان والعمل الصالح.
ولن تنتقل حال المؤمن من أداء المناسك بالجسد إلى استشعار مذاق هذه المناسك روحياً إلا باستشعار معاني القيم والمبادئ التي يكتسبها الحاج خلال المناسك، التي ينبغي أن تكون دليلًا له في حياته اليومية، ليصبح بذلك الحج نقطة تحول في حياته.
ولكل منسك من مناسك الحج رمزية تحلق بمن يفهمها ويستشعرها من حالة الجسد إلى حال الروح، لتصبح رحلة الحج تعبيراً عن حالة روحانية ومعنوية تعزز من القيم الإسلامية وتعمق الإيمان في نفس الحاج.
فالإحرام، وهو الخطوة الأولى في تلك المناسك، رمز لحالة من الطهارة والتجرد من الماديات، فلا شيء على الجسد سوى قطعتي قماش بلا مخيط؛ ما يدفع بالحاج إلى الشعور بأن رحلته هي في ذاتها تخلٍّ عن المظاهر الدنيوية والاستعداد للقاء الله بقلب نقي وروح طاهرة، حسب توصيف عادل بن علي الشدي، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الملك سعود، في كتابه مقاصد الحج.
كما يعكس هذا التخلي عن الملابس العادية وارتداء ملابس الإحرام البيضاء استشعار المساواة بين جميع المسلمين أمام الله تعالى، بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية أو الاقتصادية، ولذا يصفه المفكر الإسلامي الراحل د. مصطفى محمود، في كتابه «الطريق إلى الكعبة»، بأنه الخطوة الأولى نحو الفناء في الله، حيث يخلع الإنسان عن نفسه كل ما يربطه بالدنيا، ويصبح في حالة من الطهر الروحي والجسدي.
الطواف حول الكعبة
المعنى ذاته ينطبق على الطواف حول الكعبة، فهو من أكثر المناسك التي تحمل رمزية عميقة، تتمثل بجانب منها في وحدة المسلمين حول مركزية توحيد الله، وتحقيق شعور الجماعة الواحدة المتجهة نحو هدف واحد، حسب توصيف المفكر الإسلامي الراحل سيد قطب في «ظلال القرآن».
أما د. محمود فيقدم توصيفاً بديعاً للطواف، باعتباره محاكاة لدوران الإنسان حول محور التوحيد، وفق الصيغة التي خلق الله بها كل الكون، من الذرات إلى المجرات، ألا وهي: دوران توابع حول مركز واحد، وبذلك يتجلى الإيمان في أبهى صوره، ويشعر المسلم بأنه جزء من هذا الكون الكبير الذي يدور حول توحيد خالقه، حسب تعبيره.
الصفا والمروة
أما السعي بين الصفا والمروة فيرمز إلى الصبر والسعي في سبيل الله، ويعتبره الشدي تذكيراً للمؤمنين بقيمة الجهد المستمر وعدم اليأس في تحقيق الأهداف، ويضيف عليه مصطفى محمود بأنه تجسيد لرحلة الإنسان في البحث عن الحقيقة والإيمان، والسعي المستمر نحو الرزق والبركة من الله.
وفي ركن الحج الأعظم، وهو الوقوف بعرفة، يحاكي المؤمن تذكيراً بموقف يوم القيامة، حيث يقف جميع الناس أمام الله في مشهد واحد، متساوين في الخضوع والتذلل، بحسب تعبير قطب، ولذا فإن هذا اليوم يأتي بمثابة إعلان خضوع لله وتعزيز لشعور التوبة إليه.
المعنى ذاته يصفه د. محمود في كتابه بأنه قمة الروحانية في الحج، حيث يشعر المسلم بأنه أقرب ما يكون إلى الله، ويعيش لحظات من الخشوع والتذلل والاعتراف بالذنوب.
وفي مقابل هذا المعنى، يرمز رمي الجمرات إلى رفض وساوس الشيطان والابتعاد عنه، والتأكيد على التمسك بطاعة الله، ما يعزز استشعار الحاج لقوة الإرادة والعزم على السير في طريق الحق، بحسب الشدي.
أما الذبح فيصفه قطب بأنه تمثيل للتضحية والتفاني في سبيل الله، وتذكير بقصة إبراهيم، وإسماعيل، وكيف أن الإيمان والتضحية هما أساس العلاقة بين العبد وربه، فالمؤمن يعلن في هذا الموقف تأكيده على الاستعداد للتضحية بكل ما يملك في سبيل الله، حسب تعبير د. محمود.
قيم إيمانية
إن الفارق بين من أدى فريضة الحج بجسده ومن أداها بروحه يتمثل في فهم واستشعار القيم الإيمانية من كل منسك، وإلا فالله لا يحتاج منا إلى صلاة ولا صيام ولا حج، نحن من نحتاج إلى التذكرة التي تنفع المؤمنين، وفق سُنة الله في خلقه.
وعليه، فإن رحلة الحج، من الإحرام رمز الطهارة والتجرد، إلى طواف الوداع، ليست سوى بداية حياة روحية جديدة، تعزز من القيم الإسلامية وتعمق الإيمان في نفس الحاج، فالحج مدرسة قيمية يتعلم فيها المسلم قيم دينه الكبرى منها بروح جديدة وإيمان متجدد.
وهذه الرحلة اعتمدت لغة الرموز لأنها متجاوزة تماماً للقوميات والأعراق واللغات والأجناس، إنها لغة تتميز بعالميتها وسعتها، بحسب تعبير الفقيه العلامة الراحل د. يوسف القرضاوي، في توصيفه لحقيقة الحج على موقعه الرسمي، مشيراً إلى أن فهم هذه المعاني يسهل كثيرًا مما سماها أسرار مناسك الحج.
وسر هذه الأسرار هو إخلاص المؤمن لربه، وتحريه للحلال في ماله الذي يحج به، إذ إن حقيقة الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.