جاءت خطبة الوداع التي ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم بين الحجيج الوافد عليه الحاضر بين يديه، وعبر أثير التاريخ لمن يحج من بعده ويسمع بكلماته من أمته إلى يوم القيامة؛ بمثابة الأعمال الختامية والوصايا الجوهرية بين الراعي والرعية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم استطاع في كلمات يسيرة وخطب قصيرة في حجته المباركة جمع كليات الدين، وتقعيد الأطر العامة للمسلمين التي بها يعيشون، ومن خلالها يتعاملون ويبنون ويعرفون، كل كلمة وتوجيه بمثابة نص دستوري عظيم لو اجتمعت لجان العالم الحقوقية، ومحاكمه الدستورية على صياغته بشكل لا يسقط معتبراً ولا يغيب مهماً، محكم بكلماته، جامع من تحته لأفراده ومفرداته، ما استطاعوا أن يأتوا بمثل هذا الجمال النبوي الذي زاد على نصه وكلماته هذه طُهر قائله ونورانية مشكاته!
وبالطبع لا نستطيع أن نتعرض لكل فقرات خطابه الشريف صلى الله عليه وسلم في الموسم الأغر وقدسية الزمان والمكان والأجواء، لكننا نتعرض لما يجب إبرازه من قواعد وتوصيات خاصة بوحدة الأمة الإسلامية ونحن نحتاجها في هذا الزمان أكثر من غيره، جمعتها في المعالم الخمسة الآتية:
الأول: وحدة التوجه والانطلاق:
جاء في توجيهاته صلى الله عليه وسلم في خطبته الوداعية قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ»، فالله تعالى بوحدانيته هو المتوجه إليه، وهو المنطلق الذي نستمد كيفية التفعيل والمعايشة بين يديه في أرضه وبمنهجه، والتأكيد على الوحدانية لله تعالى هو تأكيد على قوة المعتقد التي تنتمي إليه، والركن الذي تعتمد عليه، والقبلة التي إليها تتوجه بما تصدره من قولك وعملك وأخلاقك ونيتك، لنيل القبول والفوز بشرف المثول، الوحدانية التي تطمئن من خلالها على الإيمان العميق، والتكوين الدقيق، والعمل المتواصل، واليقين الذي لا يعتريه شك، والحق الذي تصحبه في السراء والضراء، والأمة الإسلامية لا يتحقق لها حفاظ ولا يتم لها تمكين إلا بربها وحسن معتقدها وسلامة توجهها إليه والانطلاق من وحدانيته إلى عبادته واستخلافه.
الثاني: وحدة المساواة البشرية ووضع القاعدة التفاضلية:
قال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ؟»، وقال أيضاً: «أَرِقَّاءَكُمْ أَرِقَّاءَكُمْ أَرِقَّاءَكُمْ، أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ»، فالجميع على اختلافهم وتنوعهم ولونهم من نسل واحد وينتمي لأب واحد، حظوظ النفس البشرية من الترفع والتكبر والتجبر والأمراض البشرية النابعة من دلاء التعالي وخرب العنصرية لا مكان لها في ديننا، ولا تصلح كمسير لأمتنا، فما من نعمة على عبد إلا من الله تعالى إيجاد وبقاء، وإن القاعدة الوحيدة التفاضلية هي تقوى الله تعالى التي يسمو بها الإنسان عند خالقه وبين أقرانه، وهو تفاضل ينفع ولا يضر، ويعدي بالخير لمن كتب له ويدفع إلى مزيد حفاظ وتماسك وقوة ومخافة من الله تعالى وعلى الأمة الإسلامية.
الثالث: وحدة الأخوة الإسلامية ومقياسها الأصيل:
قال صلى الله عليه وسلم في خطبته: «أَلَا إِنَّ المُسْلِمَ أَخُو المُسْلِمِ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ»، وتقرير هذه الأخوة بتوجيه القرآن الكريم أولاً في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10).
ثم توالت الآيات القرآنية والتوجيهات النبوية التي توضح مقررات هذه الأخوة من أقوال وأعمال وأخلاق ومعاملات جميعها ترسم لوحة الجمال الأخوي بين المسلمين، وتضع حجرها الأسعد في صرح كعبة الوحدة الإسلامية، وما أجمل أن يضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته مقياساً للأخوة الحقيقية وتبايناً بين الادعاء والصدق بما يضبط به الإنسان أخوته بما لا يحل أو يحب لأخيه إلا بما يحل ويحب لنفسه!
الرابع: وحدة الائتلاف والسلم ونبذ الخلاف والتشرذم:
قال صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «وَيْحَكُمْ -أَوْ قَالَ: وَيْلَكُمْ- لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»، فلا عصيبة ولا كراهية ولا تنازع يؤدي بلحمة الأمة إلى أودية الغواية ودروب الفشل تصديقاً لقوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46)، وأي أمة لا تقوم لها قائمة إلا بوحدة أفرادها واجتماعهم على كلمة سواء، والحفاظ على بيتهم وبيضتهم الداخلية من وصول رياح الجاهلية المحطمة إلى بنيانهم، أو تطبيق نموذج الكفر الفاسد بعجرفته وبغيه في أوطانهم.
الخامس: توثيق النظام الداخلي للأمة الإسلامية وتوحيد أسسه:
وجه النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته أسساً لنظام الإسلام الداخلي، وهي النظم الإسلامية المهمة التي جاء الإسلام لتكريسها وتشيد بنيانها بما لم يسبق إليها سابق ولا يجاريها نظام لاحق، وهذه النظم هي:
– النظام الأسري في مجموعة من التوجيهات النبوية العظيمة؛ بدأ بالتذكير بأصل النظام الأسري ببيان العلاقة بين الزوجين وكيف بنيت بقوله صلى الله عليه وسلم: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ، لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقًّا أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا غَيْرَكُمْ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ..»، إلى أن قال: «وَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ».
كما أضاف لهذا النظام الأسري من القواعد؛ تحريم نكاح المتعة، وضبط العلاقات بين الآباء والأبناء، في قوله: «ألا لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده»، وكذا الحفاظ على الأنساب ورد كل نسب لأصله في قوله: «الولد للفراش»، وقوله: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة»، حفظ المرأة لزوجها وماله؛ «لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها»، وغير ذلك.
– النظام التعبدي؛ وذكر فيه صلى الله عليه وسلم الأصول والأركان التي هي أصول الدين من المعتقد والعبادة ليندرج تحتها ما بعدها من فروعها، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشركوا بالله شيئاً»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيتكم وأدوا زكاتكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم».
– النظام السياسي الذي يسير حركة الحياة بين الجميع تابعاً ومتبوعاً، ويؤسس لفقه الاستخلاف والتعمير في الأرض ويدفع كل هدم وتشويه لبنيان الدولة والحكم، فقال صلى الله عليه وسلم في ذلك: «اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله»، وقال أيضاً: «والزعيم غارم».
– النظام التعليمي القائم على الحفاظ على المنهج الإلهي والتشريعي، في قوله صلى الله عليه وسلم: «اعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبداً، إن اعتصمتم به، أمرين»، وفي رواية: «أمراً بيناً كتاب الله عز وجل وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم»، ومن ثم على التعليم والتعلم وحسن النقل والتفهم فقال صلى الله عليه وسلم: «فرحم الله امرأ سمع مقالتي حتى يبلغه غيره، ورب حامل فقه وليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
– النظام المالي والإداري في جملة عظيمة من كلامه صلى الله عليه وسلم، من ذلك: «فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، وإن أول دمائكم أضع»، وفي رواية: «وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة»، وفي رواية: «دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب»، وكان مسترضعاً في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل، وعند ابن إسحاق، والنسائي فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية، و«إن كل ربا موضوع، ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله».
– النظام الاجتماعي والتعاملي في جملة متنوعة من التوجيهات النبوية، من ذلك: «لا وصية لوارث»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «العارية مؤداه والمنحة مردودة والديني يقضى»، وقوله: «من سأل الناس يثري ماله فإنه خموش في وجهه»، وقوله: «لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا ولا تزنوا»، وغير ذلك.
إن هذه الخمسة هي معالم الحفاظ على وحدة الأمة لا ينقض عراها ما حافظت على ذلك وراعته في سيرها، وأي خلل يصيب الأمة نتاج تقصير أو إبعاد أحد هذه المعالم التي يحفظ الله بها أمة الإسلام كما حفظ نشأتها وتكوينها على يد نبيها أول الأمر.
وما أمسّ الحاجة إلى تلمس كلماته صلى الله عليه وسلم وخطبته التي من خلالها نرجع للريادة ونقوي اللحمة ونضمن المسير والخواتيم.