نحن على ثقة من موعود ربنا بنصر دينه وأوليائه؛ (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، بل إن ملامح النصر ونهايات المشروع الصهيوني بدأت تتشكل في الأفق بعد «طوفان الأقصى»، وتكاثفت الأحاديث عن قرب سقوط دولة العدو من داخله وخارجه، وعلى ذلك فإن تناول ما بعد سقوط المشروع الصهيوني أدخل في باب استشراف المستقبل منه في باب التمنيات والآمال المجنحة في الخيال، وإن حديثنا عن اليوم التالي لتحرير بيت المقدس أولى من حديثهم عن اليوم التالي لغياب «حماس» عن حكم غزة.
على المستوى السياسي:
لن ينهار المشروع الصهيوني بمعزل عن تراجع المشروع الغربي الاستعماري الذي حكم منطقتنا، أو هيمن عليها بدرجات متفاوتة، على مدى القرون الخمسة الأخيرة، وتخادُم المشروعين متحقق منذ كانت الصهيونية نبتة خبيثة يبحث هرتزل عن راعٍ لها، ومستمرة كما عبر نتنياهو في خطابه الأخير أمام الكونجرس الأمريكي وهو يقول لأعضائه: «نحن لا ندافع عن أنفسنا فحسب، بل ندافع عنكم أيضاً.. ومعاً سندافع عن حضارتنا المشتركة»، وكما أقر بها الرئيس الأمريكي جو بايدن في مؤتمره الصحفي الذي عقده بـ«تل أبيب» في أعقاب السابع من أكتوبر، حيث قال: «إن «إسرائيل» لو لم تكن في الوجود لعملنا على إقامتها، وسنستمر في دعمها».
تراجع المشروع الاستعماري الغربي يعني بدء انعتاق أمتنا وتقرير مصيرها بعيداً عن قهر الغرب
ولما بدت نذر الخطر في أفق الكيان الصهيوني بعد تفجر «طوفان الأقصى» هرعت حاملات الطائرات والأساطيل الأمريكية والأوروبية للزحف لطمأنة حليفتهم وحمايتها، وتهديد خصومها، وبلغ الأمر أن حضر أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، اجتماع الحكومة «الإسرائيلية» لإظهار التضامن والتشارك معهم، وصرح بأنه جاء ليشارك «كيهودي، وليس فقط كوزير أمريكي»، كما شارك لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي، في اجتماع مجلس الحرب «الإسرائيلي» بعد أيام من السابع من أكتوبر ليسهم في وضع خطط اقتحام قطاع غزة.
إن تراجع المشروع الاستعماري الغربي يعني بدء انعتاق أمتنا، وتحررها، وتقرير مصيرها بعيداً عن قهر الغرب، حيث إن حماية الأنظمة الدكتاتورية مهمة تشاركية للمشروعين الصهيوني والغربي.
ولم تكن سياسة دعم الدكتاتورية الحاكمة للعالم العربي طارئة على الكيان الصهيوني، حيث قال بن جوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني: «طيلة الوقت وأنا أخشى أن يقوم قائد عربي ليقود العرب في طريق الحرية والوحدة»، وكتب الصحفي والكاتب الصهيوني عوفر شيلح مقالاً في جريدة «معاريف»، في 1 فبراير 2011م، تحت عنوان «الديمقراطية ليست للعرب»، قال فيه: «إن العرب غير جديرين بالديمقراطية، وإن ما تحتاج إليه «إسرائيل» هو أنظمة حكم عربية مستقرة وغير ديمقراطية، وبكلمات بسيطة: نحن نريد حكاماً عرباً مستبدين يعتمدون على الغرب».
لقد كانت المخاوف الصهيونية من التحرر والوحدة العربية والإسلامية قائمة على رصد حقيقي للواقع الناطق بأشواق شعوبنا إلى الحرية، وولائها للإسلام، بل إن أحد أهم الدوافع الغربية لغرس «إسرائيل» في هذا الموضع الجيوسياسي على خارطة المنطقة أن تكون رادعة لتلك الآمال، حارسة لسيطرة أدوات المشروع الغربي الصهيوني، في قلب المنطقة المرشحة لانبعاث الصحوة الإسلامية، والمهيأة لإنجاحها.
بسقوط المشروع الصهيوني سينهار التحكم الرأسمالي اليهودي وأدواته العالمية المسيطرة
كما تكفل ذلك المشروع بإنتاج مشاريع التقسيم والتفتيت للعالم العربي والإسلامي، وقد حققت نجاحاً هائلاً بإسقاط نموذج الخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية، في الوقت نفسه الذي كانت مخططات «سايكس بيكو» توضع موضع التنفيذ، وبعد قليل تم احتضان خطة برنارد لويس لتقسيم المنطقة إلى دويلات تضم في جيناتها عوامل الاحتراب الداخلي والتعادي البيني.
ولذا، فإن انهيار المشروع الصهيوني وانهزام المشروع الغربي كفيل بإسقاط تلك المخططات، واستعادة الأمة عافيتها، وامتلاك حرية قرارها، وتحقيق آمالها في التكامل والوحدة، وإن طال طريق ذلك بفعل عقود من التشرذم وإفساد الضمائر وتغريب العقول.
ولا ريب أن انهيار أو تراجع بعض المشروع الصهيوني والغربي يفسح المجال لانطلاق المشروع الإسلامي بما يمتلكه من إمكانات عظمى تمثل نحو ملياري مسلم يشغلون مساحات جغرافية مترامية، ملأى بالثروات الاقتصادية والعلمية والفكرية، وطموحات كبرى نحو الوحدة، ويحملون عقيدة دينية فائرة، تسعى لأستاذية العالم، ورسالة إلهية ذات منظور إنساني راقٍ.
على المستوى الاقتصادي:
سيتبع انهيار المشروع الصهيوني انهيار التحكم الرأسمالي اليهودي وأدواته العالمية المسيطرة، وتنتهي حقبة روتشيلد وأبنائه، وسيطرتهم على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومعظم المؤسسات المالية حول العالم، واستبداد الربا والرأسمالية المتوحشة، التي أنتجت سيطرة 20% على مقدرات العالم، وفقر 80% من الذين يسحقهم الفقر.
إن إدارة اقتصاد العالم في منظومة تزيد الأغنياء ثراء والفقراء مسغبة، وتكرس التبعية لعدد من المؤسسات المالية العملاقة، والشركات عابرة القارات، وتحتكر التكنولوجيا العالية، وتستقطب العقول النابهة حول العالم، وتفرغ منهم بلدانهم، ليضمن الغرب استمرار تفوقه ودوام سيادته، وتنتج طابوراً من العملاء له في مجالات الإعلام، ومؤسسات البغاء والجنس، والجاسوسية والتبعية.
أبرز نتائج انهيار العدو استعادة الشعوب الإسلامية ثقتها بنفسها وقياداتها الحرة وقدواتها
وسيتبع ذلك استعادة عالمنا العربي والإسلامي القدرة على تقديم منظومة الإسلام في المال والتجارة والإنتاج بأدواته المتعددة، وهي منظومة رحيمة، تشجع على العمل، وتحرص على العدالة في توزيع الثروات، والحكمة في تحقيق الربح، وتنهى عن الاحتكار والغش والاستهلاك الباذخ، وتكديس ثروات العالم في أيدي حفنة من الطغاة.
وسوف تتحرر مقدرات أمتنا الاقتصادية التي استولت عليها الصهيونية والاستعمار، وأبرزها الثروة المائية، فيستعيد الأردن سيطرته على نهره بجانبيه، ويسترد لبنان سيادته على نهر الليطاني، وتنجو مصر من المؤامرات المحدقة بنيلها العظيم، وتتحكم الأمة في مواردها.
على المستوى النفسي:
أما أبرز نتائج انهيار العدو فتتمثل في الجوانب الروحية والنفسية، حيث ستستعيد الشعوب ثقتها في نفسها، وفي قياداتها الحرة، وقدواتها الباهرة التي أنتجتها مراحل التحرير، وسوف تثق الأمة في قدرتها على الفعل الحضاري، وصناعة النموذج الإسلامي البديل لجاهليات الأرض، وأداء دورها الرسالي المقدر لها؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، وحريتها في فرز قوى العالم بحسب مواقفهم تجاهها، فيعود مفهوم الولاء لله والبراء من أعدائه.