فرض الإسلام الزكاة على المسلمين، وجعلها ركنًا من أركان الدين، ووعد فاعلها بالثواب الجزيل، وتوعد تاركها بالعذاب الأليم؛ مما أدى إلى تحقيق الرغبة في إيتائها، والتغلب على كل ما يقف أمامها،
ومن المعلوم أن الإسلام أمر بإيتاء الزكاة من المال الذي اكتسبه الإنسان، والمال محبوب للنفس الإنسانية، وليس من اليسير عليها أن تخرج جزءًا منه من غير مقابل يسهم في التعويض عن هذا المال، ولهذا فقد رغّب الإسلام أتباعه في إيتاء الزكاة من خلال عدة معينات، منها:
أولاً: إطلاق وصف الإيمان لمن أدى الزكاة وتبشيره بالفلاح والفوز بالجنة:
جعل الله تعالى إيتاء الزكاة من صفات المؤمنين المفلحين، حيث قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون)، وفي خواتيم هذا المقطع من الآيات أكد الله تعالى أن أصحاب هذه الصفات يرثون الفردوس الأعلى من الجنة، حيث قال عز وجل: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون)، كما أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الزكاة برهان على صدق الإيمان، فعن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والصدقة برهان»(1).
ثانياً: الوعد بالأجر والثواب لمن أدى الزكاة:
وعد الله تعالى من أدى الزكاة بالأجر الكريم والثواب العظيم، حيث قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 277)، ففي الآية مدح للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإخبار عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون(2)، فإيتاء الزكاة سبيل إلى تحصيل المثوبة والأمن من العقوبة.
ثالثاً: جعل الإسلام إيتاء الزكاة علامة على شكر النعمة:
إن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم بها فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش، وشكر النعمة فرض؛ عقلاً وشرعاً، وإيتاء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة(3).
رابعاً: جعل الإسلام الزكاة سبيل إلى تحصيل رحمة الله:
قال الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 156)، فالله يكتب رحمته للذين يؤتون الزكاة.
خامساً: إيتاء الزكاة دليل على تحقيق العبودية لله رب العالمين:
إن الزكاة ركن من أركان الإسلام وأحد أعمدته الأساسية، ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلً»، ففي كون الزكاة عبادة ما يجعل أداءها واجبًا، بإلزام الفرد نفسه بها، فهي قربى إلى الله؛ وفي هذا ما يضمن الحافز النفسي على الأداء، وهو حافز الرغبة والأمل، حافز الحصول على رضا الله، وهو أمر لا يعدله في نفس المؤمن دنياه التي يعيش فيها ويُحَصِّل متعها، فهو لا يلتزم في إيتاء الزكاة مراعاة للقوانين السائدة أو السلطة الحاكمة؛ وإنما يبادر بأدائها طمعاً في تحقيق الثواب الإلهي وخوفاً من عقابه.
وذلك بخلاف النظم الوضعية التي تفرض الضريبة على الناس، فيتهربون منها أو يؤدونها كرهًا لا طوعًا، فالضرائب لها أثر بغيض يتمثل في شعور دافعها بإنقاص دخله المالي، مما يؤدي إلى إشعال العداوة بينه وبين السُّلطة، والحرص على الهروب منها، أو دفعها على مضض، خوفاً من العقوبات التي فرضها القانون على من لا يدفعون(4)، أما الزكاة فتجود بها نفس المسلم طوعًا واختيارًا وطمعًا في تحصيل الثواب الجزيل.
سادساً: الوعيد لمانع الزكاة وقهره على إخراجها:
إذا لم يكن الإيمان دافعًا إلى إيتاء الزكاة؛ فإن العبد يتكاسل عنها أو يمتنع من دفعها، ولهذا لم يكتف التشريع الإسلامي ببيان الثواب الجزيل لمن أداها، وإنما أتبعه بالوعيد الشديد لمن منعها، حيث قال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران: 180)، وقال أيضا: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه -يعني بشدقيه- يقول: أنا مالك أنا كنزك»(5)؛ فهذا تهديد ووعيد لمن ترك الزكاة.
وإذا لم يرتدع مانع الزكاة من الوعيد السابق، فقد شرع الإسلام للحاكم أن يأخذها من مانعها قهراً(6)، وفي هذا ترهيب لمن منع الزكاة، ودافع له على أدائها خوفًا من الوعيد الصادر بحق مانعيها، أو إجبار الحاكم له على دفعها.
سابعاً: الإحسان في جمع الزكاة:
تميز النظام الإسلامي في تشريع الزكاة بالإحسان في جمعها، حيث حرص على إقامة علاقات المحبة والسماحة والرحمة والتعاون بين من يعطي الزكاة ومن يجمعها لتوصيلها إلى مستحقيها، من خلال أمرين:
الأول: الأمر بالدعاء لمن يؤتي الزكاة، حيث يستحب لمحصل الزكاة أن يدعو بالبركة لمن يأخذ منهم الزكاة، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103)، ففي قوله: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ»: أي ادع لهم واستغفر لهم، وقوله: «إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ»: أي رحمة لهم(7).
أما الأمر الثاني فهو: حسن معاملة عامل الزكاة، فقد أمر الإسلام من يؤتي الزكاة بحسن معاملة العاملين عليها، حتى يؤدي كل منهم عمله وينصرف وهو راضٍ، ففي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتاكمُ المُصَدِّقُ فَليَصْدُر عنكم وهو راضٍ»(8)؛ أي فليرجع وهو راض عنكم.
وهكذا يرسم الإسلام صورة رائعة للعلاقة بين الممول وإدارة تحصيل الزكاة، فيؤمَر محصل الزكاة بأن يدعو بالبركة للمتصدق، وكذلك يؤمر الممول بحسن معاملة القائمين على إدارة الزكاة، وهذه العلاقة الحسنة الطيبة بين عامل الزكاة وبين الممولين دعامة قوية من دعامات نجاح نظام الزكاة، ومثل هذه العلاقة الحسنة يندر أن توجد بهذه الأخلاق في غير الزكاة، فقد سبق الإسلام إلى تطبيق هذه الأخلاقيات بصورة لا تستطيع أن ترقى إليها التشريعات المعاصرة التي دعت إلى التدريب الأخلاقي للعاملين في حقل الضرائب، سعيًا إلى تقليد النظام التشريعي الإسلامي في مجال الزكاة.
من خلال ما سبق يتبين أن تشريع الزكاة في الإسلام يتميز بالقدرة على دفع المسلمين إلى الإتيان بها حبًا وطوعًا، وذلك طمعًا في تحصيل ثوابها، وخوفاً من عقوبة منعها، ورضًا بالسكينة والطمأنينة المحيطة بعملية جَمْعِها.
_______________________
(1) صحيح مسلم (223).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 553).
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: الإمام أبو بكر الكاساني الحنفي (2/ 3).
(4) القيم الأخلاقية في السياسة المالية الإسلامية: د. السيد عطية عبد الواحد، ص 196.
(5) صحيح البخاري (4289).
(6) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني (3/ 360).
(7) تفسير ابن كثير (4/ 182).
(8) صحيح مسلم (989).