في خضم ما قد نعايشه أو نشهده أحيانًا من اشتداد بلاء على المؤمن، حتى ليخيّل لنا أن المؤمن يعاقب مقارنة بغير المؤمن بدل أن يثاب على إيمانه! فيكون التساؤل: أين العدل والإنصاف في مثل تلك المواقف؟
بداية، عندما يكون السؤال عن العدل، فالسائل عنده غالبًا قناعة باستحقاقٍ ما مُسبقًا، فإذا لم يعط هذا الحق أو لم يوافق الواقع ما ينبغي أن يكون عليه وفقًا لما يرى أنه الحق، شعر صاحبنا بالظلم والمحرومية، فانبرى يسأل عن وجه العدالة والإنصاف! وإنما الظلم الحقيقي في المسألة كلها هو ذاك الذي يقع فيه المؤمن إذ يتصور الحق والعدل على شاكلة المذاهب الإنسانوية الكافرة، ثم يحاكم إليها ربه تعالى! فيتصور مثلًا أن العدل في تنعّم الإنسان الصالح وبؤس الطالح على الدوام، أو في المساواة بين الجنسين، أو غير ذلك من صور العدالة الشائعة في التصورات الوضعية.
الله تعالى هو العدل
واللفتة الأولى في المسألة هي أن كل المواثيق الوضعية تبدأ بافتراض مجموعة من الحقوق وإقرار أحقيتها للإنسان بصيغة الإثبات، فلكل إنسان الحق في كذا وكذا، أما شهادة الحق فتبدأ بالنفي: لا إله إلا الله؛ أي أن من معاني نفي الألوهية عن كلّ ما خلا الله تعالى أنه لا حق لغير الله تعالى أن يُحقّ حقًّا ابتداء، فالأمر كله إليه يعطي ويمنع كيف يشاء ولا يُساءَل، ومن ثم لا حق لمخلوق إلا ما أحقّه الله تعالى، وكل حق جعله الله تعالى لمخلوق في سياق فهو منّة الله تعالى عليه، وليس كسبًا منه ولا استحقاقًا، فالأصل أنه ليس لمخلوق من الأمر شيء، ناهيك عن أن يكون له على الخالق مُسلَّمَات مفروضة مسبقًا.
ومن ثم، على المؤمن أن يدرك أن الله تعالى هو العدل بالألف واللام، وبذلك يكون وصف العدالة تابعًا لا سابقًا، بمعنى أن كل ما يأتي من العدل تعالى من تشريع أو تقدير هو عدل، فالله تعالى لا يجري عليه ولا منه حَيْفٌ أو جور، حاشاه!
وفرق بين ألا يكون لك شيء أصلًا فتُوهَب شيئًا فتحمد وترضى، وأن تفترض أنه يحق لك شيء استباقًا فإذا لم تُعطه استشعرت المظلومية وسخطت على الحرمان، وفرق بين ألا يكون لك من الأمر شيء فلا تملك أن تعترض على قسمة المالك في ملكه أو تنازع هبة الوهاب من فضله، وأن تفترض لك استحقاقات من تلقاء نفسك فلا يملأ عينيك ما تُؤتى من فضل، ولا تراه فضلًا حتى، بل وتحسد غيرك على ما أوتوا مما يغاير ما معك!
وفي مناظرة بين القاضي عبدالجبار أحد كبار المعتزلة، والإمام الإسفرايني أحد أئمة السُّنة، قال له فيها القاضي: أرأيتَ إن منعني اللهُ الهدى، وقضى عليَّ بالرَّدَى (أي الموت)، هل أحسن إليَّ أم أساء؟ فأجاب الإسفرايني: «إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء»(1)(2).
ومن ثم فالسؤال الصحيح: من أين يجد عبد في نفسه من الندّية ما يُجَرِّئه على مساءلة ربه تعالى بنبرة استعلاء أو شعور باستحقاق كشف الحساب؟ وما ذلك إلا أثر ما تسرّب من ثقافات أهل الكفر وعقائدهم المنحرفة القائمة على تأليه الإنسان واستحقاقه لإخضاع كل ما عداه لرغباته وتحليلاته وفلسفاته ولو كان المقام الإلهي! إنما للعبد أن يُسأل لا أن يسائِل، وبنبرة عبد يستفهم ويستعلم لا نبرة فرعون يحاسب ويتطاول، وبنفسية عبد مستعدة للامتثال بعد العلم لا نفسيّة قارونية مستكبرة على بارئها، وفي الحديث: «قَالَ اللَّهُ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»(3)، فذلك الداخل على الله تعالى دخلة التأله أو نصف تأله ونصف عبودية، هذا الذي لا يجيبه الله لأنه لم يستجب لله تعالى، ولا يهديه الله تعالى لأنه لم يأت طالبًا للهدى بل منازعًا فيه.
القدرة والمشيئة
على المؤمن أن يميز بين القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية، فالله تعالى قادر أن يرفع أي ابتلاء، بل ألا يُعرِّض مسلمًا لابتلاء أصلًا، إلا أن مشيئته تعالى قضت بالامتحان في الدنيا وكتبت على الدنيا الامتحان، ودونك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلو كان أحد أولى بمعافاته من الابتلاءات لكرامته على الله تعالى لكانوا هم، وإنما كانت كرامتهم هي عين ابتلائهم بالتكليف الأعظم، وهو بلاغ الحق للعالمين وما في سبيله من مشاق، وكذلك لو كان أحد أولى بالاعتراض على ابتلاء الله تعالى له رغم كرامته لكانوا هم، وحاشاهم جميعًا! وفي الحديث: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً قال: «الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم، فمن ثَخنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه، ومن ضعُف دِينُه ضعُفَ بلاؤه، وإنَّ الرجلَ لَيصيبُه البلاءُ حتى يمشيَ في الناسِ ما عليه خطيئةٌ»(4).
ودونك موقف من مواقف الابتلاء الشديد التي عرضت للمصطفى عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان أول ما لفت عناية الحاضرين له هو ارتباط السياق برحمة الله تعالى: أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم إنَّ ابني قد احتُضِر فاشْهَدنَا، فأرسَل يقرئ السَّلام، ويقول: «إنَّ لِلَّه ما أَخَذ ولَهُ ما أَعطَى، وكلُّ شَيءٍ عِنده بِأجَل مُسَمَّى (وفي رواية: بمِقْدار) فَلتَصبِر ولتَحتَسِب»، فأرسلت إليه تُقسِم عَليه لَيَأتِيَنَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فَرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبِي، فأَقعَدَه في حِجرِه ونَفسه تَقَعْقَع (أي تخرج من بدنه)، فَفَاضَت عينَاه فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: «هذه رَحمَة جَعلَها الله تعالى في قُلُوب عِباده»، وفي رواية: «في قلوب من شاء من عباده، وإنَّما يَرحَم الله من عِبَاده الرُّحَماء»(5).
وإذن عليك، أيها المؤمن، أن تعي أنك أنت محل الاختبار من الله تعالى لا العكس! وأن إيمانك أنت هو محل التمحيص، وليست قدرة الله تعالى هي محل التمحيص منك! فالله تعالى قادر أن يقيم الساعة ويقضي بين الحق والباطل ويؤاخذ الظالمين بظلمهم، وإنما جرت مشيئته أن يمتحن بني آدم على هذه الأرض بأعمالهم حتى حين هو تعالى مُقدّره وأجل بالغه: (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: 253).
وما أحسن قول مصطفى صادق الرافعي في كتابه «وحي القلم» في مقال بعنوان «الانتحار»: «تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخِسّة والدّناءة، وتكسر الشر والكبرياء، وتَفثَأ الحدّة والطيش؛ فلا يكون من حُمقه إلا أن يزيد بها طيشًا وحدّة، وكبرياء وشرًّا، ودناءة وخِسّة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك».
أنت، أيها العبد، محلُّ الامتحان من الله تعالى، وليس الله تعالى محلَّ الامتحان منك!
_____________________________
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، مذهب القدرية والمعتزلة في القدر والرد عليهم، مناظرة بين عبد الجبار المعتزلي، وأبي إسحاق الإسفراييني في القدر.
(2) لمزيد من التفصيل في مسألة الحقوق وإحقاقها، يُراجع «اسم الله الحق» في كتاب «الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة»، للمؤلفة.
(3) مسند أحمد: مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة (9359).
(4) مسند أحمد: مسند باقي العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (1494).
(5) متفق عليه.