أخرج البخاري في صحيحه عن أنس أن عمه غاب عن بدر، قال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليريَنَّ الله ما أُجِدُّ، فلقي يوم «أحد»، فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد، إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم(1).
هذا الحديث يوثق لنا قصة موقف عظيم لصحابي جليل، تتجلى فيها صورة ناصعة للصدق مع الله عز وجل في الجهاد في سبيله، وتُرسم فيها معالم فقه الاستدراك عندما يفوت شيء من الخير.
أما الصحابي الجليل فهو: أنس بن النضر بن ضمضم، النجاري الخزرجي الأَنصارِيّ(2)، أبو عمرو، استُشهد بـ«أُحُد»، وكان من فضلاء الصحابة، وهو عم أنس بن مالك، وقد سمي باسمه.
وأما قصة موقفه فقد غاب عن غزوة «بدر» دون تقصير منه، لكنه كبُر عليه ذلك لِما فاته من الخير العظيم في شهود «بدر»، ومن هنا بدأت قصة موقفه الذي سنتأمله بشيء من التحليل بعدد من الوقفات:
الأولى: فقه الاستدراك وزيادة الحرص على العمل بسبب فوات شيء من الخير:
قال الوزير ابن هبيرة: في هذا الحديث أن الله تعالى قد يبلغ من لطفه بعبده المؤمن إلى أن يرزقه الله زيادة الحرص على الخير، بأن يفوته من الخير شيء قد كان أدركه غيره، فإن أنس بن النضر حين فاتته «بدر» زاد حرصه، حتى بات الناس في يوم «أحد»، فاستدرك ما فاته وجعل حسن بلائه مقتدى لكل من أراد أن يستدرك فائتًا من أمره أن يفعل كفعله(3).
ونحن نقول في هذه الأيام، وبعد مرور عام على «طوفان الأقصى»: إنه ينبغي لكل من فاته فضل المشاركة في الجهاد بشكل مباشر أو غير مباشر، السعي للاستدراك من خلال بذل ما يمكنه في سبيل الله، وبذل الجهد بإعداد النفس والاستعداد وذلك من أجل استغلال أية فرصة تتاح.
الثانية: سر الإخلاص وبركته:
عند التأمل في قوله: «ليَرَيَنّ الله»؛ نجد أنه لم يُرد أن يرى ما فعله غير الله عز وجل، فدل قوله هذا على لباب إخلاصه، ولا جرم أن الله تعالى أظهر بركة إخلاصه عليه(4).
الثالثة: من علامات الصدق نية التجديد في الإسلام:
نعيش في هذه الوقفة مع قوله: «ليريَنَّ الله ما أُجِدُّ»، وأُجِدّ من التجديد وجعل الأمر جديداً، وعليه يكون المعنى: ليرينَّ اللهُ ما أُجَدِّدُ في الإسلام؛ من شدة القتل بالكفار، واقتحام الأهوال في قتالهم(5)، فقد كان أنس بن النضر مجدداً في ميدان الجهاد واقتحام الأهوال والصدق مع الله فيه، ونرى اليوم جحافل المجددين الذين جددوا في الأمة روح الجهاد من المجاهدين من أبناء فلسطين ومن نصرهم، وميادين التجديد كثيرة ومتنوعة وباب التجديد في الإعداد والجهاد مفتوح لكل مؤمن مشتاق لريح الجنان.
الرابعة: الصدق مع الله يقتضي قلة التحديث والإكثار من العمل والتوكل على الله:
قال أنس بن مالك عن عمه: «فهاب أن يقول غيرها»؛ أي أنه لم يقل: سأفعل وأفعل في المعركة، وذلك مخافة أن يعجز أو يقصِّر، أو مخافة العجب منه أو به، ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مقصودة، ممّا يحتّم على كل مسلم أن يتخلّق بهذه الأخلاق الحميدة، فيضمر في قلبه ما يريد فعله لله عز وجل، وإن كانت هناك مصلحة في التكلم كانت بقدر الحاجة فقط، والله عز وجل مطلع على البواطن والظواهر، قال سبحانه (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه: 7).
الخامسة: من علامات الصدق مع الله المبادرة إلى العمل وإن تأخر من هو أعلم وأعلى مقاماً:
عندما قال أنس: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء»، يعني المسلمين، فلم يجلس مع الذين ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، ويستفاد من ذلك ألا يستصغر المسلم نفسه، وأن يقوم بالحق ولو لم يسر في الطريق أحد ولو تأخر من هو أعلم منه وأعلى مقاماً في ذلك.
السابعة: من أعظم بركات استحضار الصدق تحقق اليقين بشمِّ ريح الجنة:
فقول أنس لسعد بن معاذ عندما لقيه: «إني أجد ريح الجنة دون أحد»، قال ابن حجر: لما اشتاق إلى ريح الجنة صارت له قوة من استنشقها حقيقة(6)، فيا شباب الإسلام عليكم بالصدق والإعداد والعمل، لتستنشقوا رياح الجنة.
الثامنة: الصدق بالوفاء بالعهد:
رُوي أن سعداً بن معاذ قال عن أنس للنبي صلى الله عليه وسلم: «فما استطعت يا رسول الله ما صنع»(7)؛ أي لم يستطع أن يصنع مثله في الإقدام الذي صدر منه حتى وقع له ما وقع من الصبر على تلك الأهوال بحيث وجد في جسده ما يزيد على الثمانين من طعنة وضربة ورمية(8).
ولأجل ما وقع منه من الصدق بالوفاء بالعهد نزل فيه وفي أمثاله قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23)، وفي قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) فسحة من الأمل لمن أراد أن يلحق بركب هؤلاء الرجال.
__________________________
(1) صحيح البخاري (4048).
(2) الأصبهاني، معرفة الصحابة (1/ 230).
(3) ابن هبيرة، الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 256).
(4) المرجع السابق.
(5) الدماميني، مصابيح الجامع، ج8، ص9.
(6) فتح الباري، ج6، ص23.
(7) البخاري في صحيحه (2805).
(8) ابن حجر، فتح الباري (6/ 23).