سلامة البيوت من المشكلات أمر خارج عن الطبيعة البشرية، ويدخل بها في الطبيعة الملائكية، ثم إن بيت النبوة وهو أشرف البيوت لم يخل من المنغِّصات والمشكلات.
وقد اجتمع حول الرسول ﷺ من النساء ما لم يجتمع لغيره في أمَّته، لينقلن تفاصيل حياة النبي ﷺ صغيرها وكبيرها، آمالها وآلامها، أفراحها وأتراحها، جهادها ولعبها.. إلخ.
ولم يجتمع حوله من الإماء والجواري والسراري ما قد اجتمع لغيره من كثير من رجال أمته؛ إذ إن الأمَة لا تشارك سيدها في كل أحواله، بل قد لا يتذكرها إلا عند طلبه قضاء وطره منها.
وكان من نساء النبي ﷺ البكر والثيب، والصغيرة والكبيرة، والمطلقة والأرملة، وذات الولد ومن لا ولد لها، كل أولئك لتجد نساء الأمة صفات مشابهة مشتركة بينهن وبين نساء النبي ﷺ ليتعلمن منهن، وليأخذن عنهن.
وقد تباينت صفات أمهات المؤمنين، إلا إنهن اجتمعن على الغيرة عليه، وقد تجسَّد ذلك في قول أمنا عائشة: «وَمَا لِي لاَ يَغَارُ مِثْلِى عَلَى مِثْلِكَ»(1).
وكانت تلك الغيرة من الأسباب الرئيسة في إحداث المشكلات في بيت النبوة، هذا من زاوية، لكننا من زاوية أخرى نحتاج أن نعرف كيف تعامل النبي ﷺ مع هذه الجبلَّة التي جُبلت عليها بنات حواء، وتلك الهفوات التي صدرت منهن.
أنواع الهفوات والمشكلات
أولاً: هفوات تغاضى عنها:
إن الرجل ليفرح من تنافس النساء عليه، ما لم يرتكبن إثمًا، أو يقعن في حرام، ثم إن الغيرة من طبائع النساء التي لا انفكاك لهن عنها، وهي دليل -في أغلب الأحيان- عن المحبة، وفي بعضها دليل على رغبة دفينة عند المرأة على حب التملُّك، والرجل قد يقبل الغيرة عليه، لكنه يضيق أو يرفض ما قد يراه من المرأة في أنه مِلْك لها وحدها لا شريك لها فيه.
وفي التالي، سوف نعرض لبعض الهفوات التي تغاضى عنها النبي ﷺ؛ لعلمه بطبائع النساء، وأن محاولته منع ذلك أمر غير مستطاع.
حزبا بيت النبوة
لم يمنع تنافس نساء النبي ﷺ فيما بينهن لكسب قلبه أن يُكوِّنَّ مجموعات؛ فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ ولعل تكوين تلك المجموعتين انبنى على تقارب الصفات فيما بينهن، أو تفاهم أكثر.
وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله ﷺ عائشة، فكانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فلم يُعجب ذلك حزب أم سلمة، وتقدمت أم سلمة طالبة من الرسول ﷺ أن يأمر المسلمين بألا يفعلوا ذلك، فلم يقل لها شيئًا، فأكثرت عليه فقال لها: «لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلاَّ عَائِشَةَ».
فلم يتوقفن وطلبن من فاطمة التدخل فقال لها: «يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ».
ولم ييأسن فأرسلن زينب بنت جحش، فأتته فأغلظت ورفعت صوتها، حتى تناولت عائشة، فردت عليها حتى أسكتتها، فما كان من النبي ﷺ إلا أن قال: «إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ»(2).
فهنا النبي ﷺ كان حليمًا صبورًا على نسائه، ولم يقطع عليهن الطريق في إبداء رأيهن، لكنه من غير المعقول أن يطلب من المسلمين أن يتركوا الإهداء في يوم عائشة أو يوزعوا الهدايا على أيام نسائه أجمعين، وهذا كان من الذكاء الفطري الاجتماعي للمسلمين.
وعند وقوع الاحتداد والإغلاظ، فإنه يتركهن لينتصرن لأنفسهن، ويقف موقف المتفرج، وإن كان هواه مع طرف بعينه.
غارت أمكم
في يوم من الأيام أهدت أمنا أم سلمة النبي ﷺ طعامًا وهو عند أمنا عائشة، فلم تتحمل أمنا عائشة ذلك، فما كان منها إلا أن ضربت يد الخادم الحامل للطعام فسقطت الصحفة فانفلقت، فتعامل النبي ﷺ مع الموقف بكل هدوء، وأخذ يجمع فِلَقَ الصحفة، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ»(3)، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ صحيحة مِنْ عِنْدِ أمنا عائشة، فَدَفَعَها إلى أمنا أم سلمة، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي أمنا عائشة.
ريح مغافير
كانت نساء النبي يعدون عليه أنفاسه، ويحسبون عليه أوقاته، فكان يدخل على كل نسائه يوميًّا بعد صلاة العصر للاطمئنان عليهن، فلو حاولت إحداهن أن تفوز بوقت أكبر من ضرائرها كنَّ يحتلن لمنع ذلك.
وفي يوم تأخر عند أمنا حفصة لأنها كانت عندها عسل، والنبي ﷺ كان يحب الحلواء والعسل، فأشعل هذا التأخر الغيرة بقلب أمنا عائشة، رغم أن حفصة من حزبها، لكنه التنافس الشريف على قلب سيد البشر، فخططت لمنعه من ذلك هي وسودة، وصفية، عن طريق سؤاله: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ وهو صمغ حلو له رائحة كريهة.
والنبي ﷺ أبعد الناس أن تتلبس به رائحة كريهة، فترك المكوث عندها لشرب العسل(4)، وقيل: إن تلك السيدة هي أمنا زينب بنت جحش وليست حفصة(5).
وهنا تدخَّل ربنا لمنع نساء النبي ﷺ من الوقوع في أمور تحرِم النبيَّ ﷺ مما أحل الله له في آيات تتلى في مفتتح سورة «التحريم».
ثانيًا: هفوات نصح فيها:
كان النبي ﷺ يتغاضى عن الغيرة ما لم توقع صاحبتها في الإثم، وقد دفعت الغيرة أمنا عائشة لأن تنتقص من أمنا صفية فاغتابتها؛ فلم يغض النبي ﷺ الطرف عن ذلك، بل نصحها بألا تدفعها الغيرة لذلك؛ فقال لها: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ»(6).
ثالثًا: هفوات هجر فيها:
لم يقبل النبي ﷺ بعض الأمور من نسائه؛ كأن يطلبن نفقة أكثر مما كان عليه الأمر، أو يفشين سرًّا من أسراره التي استأمنها إحداهن، وقد أدبهن بالهجر؛ حتى لا يعدن لمثله أبدًا؛ فآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا(7)؛ أي: حلف ألا يدخل عليهن شهرًا.
رابعًا: هفوات ضرب فيها:
وهذا هو النادر من فعله، وليس هو الضرب المعروف بيننا الآن، أو ما يتبادر إلى الذهن، بل هو مجرد دفعة قد يتألم موضعها، وذلك عندما يساء الظن به، وتصور وقوع الظلم منه؛ إذ إنه في ليلة من ليالي أمنا عائشة خرج من عندها للبقيع، فتبعته، ولما عاد سبقته للبيت، ولم تستطع أن تخفي شدة ضربات قلبها وسرعة نفَسها، فلما علم خروجها وظنها السيئ به دفعها في صدرها، أو على حد قول أمنا عائشة: «فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي»(8).
وفي الأخير يرى المتتبع لسيرة النبي ﷺ مع أزواجه أن الغالب التغاضي عن الهفوات، ما لم توقع صاحبتها في إثم كغيبة، أو إفشاء سر، أو سوء ظن، أو تبرم بمعيشة.. إلخ.
________________________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا، ح(2815).
(2) الحديث بطوله أخرجه البخاري في الهبة، باب: مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ، ح(2581).
(3) الحديث بطوله أخرجه البخاري في النكاح، باب: الغيرة…، ح(5225).
(4) انظر الحديث الذي أخرجه البخاري في الحيل، باب: مَا يُكْرَهُ مِنِ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ…، ح(6972).
(5) انظر الحديث الذي أخرجه البخاري في التفسير، باب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ح(4912).
(6) أخرجه أبو داود في الأدب، باب: في الغيبة، ح(4875)، وقد صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
(7) أخرجه البخاري في الصوم، باب: قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الهِلاَلَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا)، ح(1910).
(8) الحديث بطوله أخرجه مسلم في الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، ح(974).