في الساعات الأولى من فجر الخميس 26 سبتمبر 2024م، وأثناء وجود رأس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح البرهان في نيويورك، مشاركاً في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ نفّذ الجيش السوداني والقوات المشتركة والقوات المساندة هجوماً واسعاً على المليشيا المتمردة بالعاصمة السودانية الخرطوم، واستطاع لأول مرة عبور جسر النيل الأبيض الرابط بين أمدرمان والخرطوم، وجسر الحلفايا الرابط بين أمدرمان وبحري، وأصبحت مدن العاصمة المثلثة أو أجزاء واسعة منها في يد الجيش السوداني لأول مرة منذ تنفيذ مليشيا «الدعم السريع» تمردها على الدولة السودانية، في 15 أبريل 2024م.
وقد سُميت هذه العملية بـ«الوثبة»، وشبهها البعض بعبور القوات المصرية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس عام 1973م، من حيث المفاجأة والصدمة وكسر شوكة العدو، فما الذي تعنيه هذه الوثبة من الناحية العسكرية والسياسية؟ وما تأثيراتها المستقبلية على مختلف الأصعدة؟
أصل الحكاية
قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة يجدر بنا أن نقدّم توصيفاً حقيقياً لهذه الحرب؛ لأن هذا مما يساعد في التحليل النهائي وفهم الأمور على حقيقتها في مساراتها الحالية والمستقبلية.
وتوصيف الحرب في السودان تخبّط فيه الكثيرون وأخطؤوا، خاصة غير المتابعين بدقة لمجريات الأحداث في السودان؛ فقد ذهب البعض إلى أن هذه حرب بين جنرالين، أو أنها صراع على السلطة بين مجموعات متنافسة، أو أنها اقتتال بين طائفتين من المؤمنين، أو أنها فتنة، إلى غير ذلك من التوصيفات الخاطئة.
في الحقيقة، إن هذه الحرب سعت فيها مليشيا «الدعم السريع» إلى التمرد على الدولة في السودان والاستيلاء على السلطة بالقوة في السودان، صباح 15 أبريل 2023م، بعملية خاطفة ومفاجئة معتمدة على أنها كانت متمركزة فعلياً في مناطق حساسة وإستراتيجية في الخرطوم، وقد كانت هذه أحد أخطاء حكومة حمدوك القاتلة؛ فقد أوكل والي ولاية الخرطوم أيام حمدوك وهو من تحالف قوي الحرية والتغيير الحاكم أمر تأمين ولاية الخرطوم لـ«الدعم السريع».
وهكذا كانت المليشيا المتمردة تتمركز قواتها داخل القيادة العامة للجيش وداخل القصر الجمهوري وحول المطار ومباني الإذاعة والتلفزيون والجسور الرئيسة في العاصمة وكثير من مقار هيئة العمليات التي آلت إليها في وقت سابق، وهي مقار كثيرة وذات مواقع إستراتيجية ومهيأة من حيث التسليح وعدد الجنود المتواجدين بها.
وهكذا قدرت المليشيا المتمردة أنها خلال ساعات يمكنها من السيطرة على الدولة واعتقال قادة الجيش وإذاعة بيانها بالاستيلاء على السلطة.
والحقيقة أن كل مقومات الاستيلاء على السلطة وتنفيذ الانقلاب كانت متاحة ومهيأة للمليشيا المتمردة، لولا لطف الله تعالى، ثم استبسال الجيش السوداني خاصة مجموعة من الحرس الجمهوري الذين استشهد عدد كبير منهم للحيلولة دون اعتقال القائد العام وقادة الجيش، وقد نجحوا في ذلك، بالإضافة إلى تنفيذ نسور الجو من سلاح الطيران عمليات نوعية في الساعات الأولى للتمرد شلّت القوات المتمردة وكسرت شوكتها وحالت بينها وبين تنفيذ انقلابها.
وقد أعان المليشيا المتمردة في ذلك أعوان محليون وإقليميون ودوليون، ساعدوها بالسلاح والمال والدعم السياسي والإعلامي والدبلوماسي، وقد تكشفت أدوار بعضهم الآن، وستتوالى فضائح البعض الآخر وكشف أدوارهم في مقبل الأيام.
عملية «الوثبة»
عسكرياً، يمكن القول: إن الجيش السوداني والقوات المشتركة والمساندة والمقاومة الشعبية قد امتلكوا زمام المبادرة والمبادأة لأول مرة منذ بداية الحرب وانتقلوا من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وهذه إستراتيجية اتبعها قادة الجيش السوداني تمثلت في استدراج المليشيا المتمردة للتجمع والتركّز مما يسهل ضربهم واستئصالهم.
كما عمدت تكتيكات الجيش إلى استنزاف المليشيا وإنهاكها، وفي الوقت ذاته احتفاظ الجيش بكامل قواته وكل ذخيرته حتى إذا حانت اللحظة المناسبة كان الجيش قوياً ومستعداً، بينما المليشيا منهكة وضعيفة؛ وهو ما حدث فجر 26 سبتمبر 2024م.
إلا أن هذه الإستراتيجية تضمنت أيضاً خطة واضحة للتسليح ومدّ الجسور مع قوى دولية وإقليمية ساهمت في إمداد الجيش السوداني بأسلحة نوعية ساعدت في عملية «الوثبة»، وستساهم في محاصرة ودحر واستئصال المليشيا المتمردة، وبعد عملية «الوثبة» تم بالتزامن حصار المليشيا المتمردة في ولايات الجزيرة وسنار والخرطوم، والهجوم على مواقع المليشيا المتمردة في دارفور، وأصبحت هزيمة المليشيا المتمردة مسألة وقت فقط.
مؤامرة القوات الدولية
سياسياً، ومع اقتراب الجيش من الانتصار على المليشيا المتمردة، بدأت بعض التحركات الإقليمية لمحاصرة الجيش وإنقاذ المليشيا المتمردة، والملاحظ أن هذه التحركات تنشط كلما حقق الجيش انتصاراً أو أحرز تقدماً.
من هذه التحركات، قام وفد من مجلس السلم والأمن الأفريقي بزيارة إلى السودان، الخميس 3 أكتوبر الجاري، وهي الزيارة الأولى لهذا المجلس للسودان منذ عام 2015م، حسب بيان صادر من إعلام مجلس السيادة، والتقى الوفد برأس الدولة وحاكم إقليم دارفور والنائب العام، وقد تزامنت الزيارة مع دعوات انطلقت لقدوم قوات أفريقية للسودان لحفظ الأمن وحماية المدنيين، وتزامنت هذه الدعوات مع نشر تقرير للجنة تقصي حقائق دولية عن الأوضاع في السودان، نسب التقرير إلى الطرفين القيام بجرائم حرب، وهذه كلها مقدمات لاستقدام قوات أفريقية أو دولية إلى السودان.
لكن هذه الجهود لن يكتب لها النجاح، ولن يتم استقدام قوات على الأقل بالطريقة التي يفكر بها المتآمرون على السودان، وذلك لعدة أسباب، منها أن للسودان أصدقاء في مجلس الأمن ومن الدول التي تتمتع بحق «الفيتو»، وغالباً ستعرقل إصدار مثل هذا القرار من مجلس الأمن، إلا إذا قرر البعض تجاوز مجلس الأمن والتصرف خارج الشرعية الدولية، وهذه قصة أخرى ستكون لها عواقبها الوخيمة.
ومن الأسباب أيضاً أن الشعب السوداني قد التف حول جيشه بصورة لم يسبق لها مثيل، وفي ظل هذا التلاحم والاتفاق ووحدة الصف الداخلي يصعب الحديث عن استقدام قوات دولية أو إقليمية.
لقد اتضح من خلال هذه الحرب أن السودان يتعرض لمؤامرة تشارك فيها بعض القوى الدولية والإقليمية، وما المليشيا المتمردة إلا أداة ومخلب قط لتنفيذ المؤامرة، وقد صمد الجيش السوداني ومِن ورائه الشعب السوداني في وجه هذه المليشيا المتمردة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة هذه الأيام، إلا أن المؤامرات لا تنقطع، وصمود الجيش والشعب لن ينكسر، ولطف الله تعالى لن ينحسر بإذن الله.