الخديعة الكبرى التي تعرضت لها شعوب العالم هي التصديق بوجود القانون الدولي، وأن هذا القانون يمكن عن طريقه أن تنال الدول والشعوب الإنصاف والعدل، فالقانون منذ نشأته على يد محامي القراصنة الهولندي هوجو كورتيس عام 1640م قد أسس على أساس تقاسم الموارد والمصالح بين الأقوياء المستعمرين، وتسمية هذا الظلم بالعدالة الدولية، وهذا المبدأ المتناقض مع الفطرة البشرية والشرائع الدينية وخصوصاً شريعة الإسلام هو ركيزة النظام القانوني الأمني الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية، فما تقرره الدول القوية دائمة العضوية في مجلس الأمن من غايات ومصالح وتتفق عليه ينفذ ولو كان مناقضاً بشكل فج للعدالة، ونصوص القانون الدولي ما وضعت إلا لتفسير وحماية مصالح هذه الدول الكبرى.
لقد ابتلي السودان منذ أبريل 2023م بتمرد عسكري قامت به قوات «الدعم السريع» على الدولة السودانية، وهذا التمرد الذي بدأ بمحاولة السيطرة على السلطة تحول إلى حرب دموية مات فيها الآلاف، وقد سعى المجتمع الدولي منذ اللحظة الأولى للتمرد على عدم انتصار الجيش السوداني على المتمردين، فقد تدخلت الولايات المتحدة أكثر من مرة في هدن عسكرية ساعدت التمرد على الانتشار الواسع وتهريب قادته إلى مواقع حصينة لا تصل لها يد الجيش.
ومنذ اللحظة الأولى للحرب، أعلنت مديرة المخابرات الوطنية الأمريكية أفريل هاينز أن تقديراتها ألا منتصر في هذه الحرب، وفي الحقيقة لم تكن تلك تقديراتها، بل هو ما تسعى إليه الولايات المتحدة بعد أن فشلت الحكومة العلمانية التي كانت تدعمها في إدارة البلاد وعدم رغبة أمريكا في بقاء السودان موحداً مستقراً.
منذ الشهور الأولى للحرب، طرح نشر قوات أممية كحل للأزمة السودانية، وأن تقوم هذه القوات بحماية الحكومة الانتقالية (الليبرالية)، وأن يتم حل الجيش الوطني السوداني، واستبداله «قوات الدعم السريع» والحركات المسلحة به؛ وذلك بسبب ما زعم من انحياز الجيش السوداني للتيار الإسلامي.
لكن هذا الرأي بقي حديث نخبة علمانية تعيش في الغرب لأعوام، وبعيدة عن الواقع السوداني، أقصى ما كانت تتمناه في منافيها هو العودة إلى البلاد على رأس دبابة أمريكية.
وعندما اندلعت الثورة على البشير، لم يرتقوا إلى إرادة الجماهير في الانتخابات الحرة؛ فعطلوا المرحلة الانتقالية، وطالبوا من الأمم المتحدة بعثة أممية لتساعدهم في إدارة البلاد، فعين مجلس الأمن على رأسها مستشرقاً ألمانياً خبيراً في شؤون الخليج وإيران، ولا يعرف عن السودان أي شيء سوى أن شعبه يتحدث العربية.
لكن سبتمبر الماضي، شهد مفاجآت؛ أولها تحقيق الجيش السوداني انتصارات كبيرة على «قوات الدعم السريع» جعلت قائدها يخرج أكثر من مرة مطالباً بوقف إطلاق النار، والجيش يرفض ويصر ألا وقف لإطلاق النار حتى تنسحب المليشيا من بيوت المواطنين وشوارعهم وتعود إلى معسكراتها، ويتم بعد ذلك النظر في أمرها.
وثانيها: خروج تقرير لجنة تقصي الحقائق لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة التي زعم ارتكاب الجيش السوداني لجرائم حرب وارتكاب «الدعم السريع» لإبادة جماعية، والحل هو إرسال قوات أممية إلى السودان لإنقاذ المدنيين، كما زعمت اللجنة.
الغريب في تقرير اللجنة أنه لم يتقصَّ الحقائق على الأرض في السودان، إنما اعتمد على شهادات سودانيين يعيشون في كينيا وأوغندا أغلبهم من أتباع توجه سياسي معروف، ولم تتقص اللجنة الحقائق من السودانيين الذين يعيشون في السودان أو في دولة تشاد ومصر اللتين تضمان أكبر تواجد للاجئين السودانيين من الحرب الحالية؛ ما يشير إلى أنها استعجلت الوصول إلى هذا التقرير الذي رفضت محتواه الحكومة السودانية، بينما رحب المبعوث الأمريكي توم بيرلو بتقرير اللجنة، وأعلن تأييده لنشر قوات أفريقية في السودان.
لجنة تقصي الحقائق تجاوزت تفويضها بلا شك، وأصدرت أحكاماً معقدة مثل جرائم الحرب والإبادة الجماعية، رغم أن هذا الأمر من صلاحيتها التي تنتهي بتسليم الأدلة إلى محكمة الجنايات الدولية، وأضافت الدعوة لنشر قوات أممية، وهذه الدعوة أيضاً من اختصاص مجلس الأمن وليست من اختصاصها؛ ما يشير إلى مؤامرة تمت حياكتها بعناية لإعادة احتلال السودان تحت مسمى حماية المدنيين، رغم أن السودانيين المدنيين يفرون إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني من مناطق «الدعم السريع»؛ ما يشير إلى أن المدنيين محميون في السودان.
إن الاعتقاد بأن الأمم المتحدة مؤسسة محايدة مجرد وهم، ويرفع دائماً المغفلون شعار التدخل الأممي كبديل للتدخل الأمريكي، رغم أنه لا يوجد فارق كبير بين الشعارين، فالتدخل الأممي أي منح السيادة والكلمة الفصل في أي دول لمجلس الأمن الدولي.
وإن مجلس الأمن مهمته هو ضمان هيمنة هذه الدول الخمس، وعن طريق هذا المجلس يتم فرض العقوبات ونشر القوات الأممية لحفظ السلام، وإذا لم يصوت مجلس الأمن على أي قضية بالموافقة؛ فإنها تنتهي وتنسى تماماً، ولا تتمتع الأمم المتحدة وتقاريرها بأي قيمة إذا ما تصادمت مع مصالح الدول الكبرى، حيث ترسل المنظمة الأممية قواتها بعد التوصل إلى تسوية لحل النزاع، أو وقف إطلاق النار بشرط عدم اعتراض أي من أعضاء مجلس الأمن الدولي، لأنه المسؤول عن قرار نشرها.
إن الأمم المتحدة كانت ولا تزال سيفاً ودرعاً يستخدمه الغرب الرأسمالي في مواجهة منافسيه.