عبر التاريخ القديم والمعاصر، سطرت الأمم مواجهات لم تكن نهايات، بل كانت بدايات في صفحات الانتصارات؛ فالقيادات التي تتقن استخدام أدوات الدبلوماسية المتنوعة تستطيع تحويل الأزمات إلى فرص، وتجعل من الصمود منصة للصعود نحو تحقيق الأهداف الكبرى؛ الداخلية والخارجية، والمحلية والإقليمية والدولية.
تتمحور هذه الأهداف حول الإنسانية، وترتكز على تحولات أربعة رئيسة تبدأ بالدبلوماسية السياسية، ثم الشعبية، فالثورية، وختامها العسكرية، وعمقها الزمن؛ حيث تنطلق من المزج بين الحكمة والقدرة على اتخاذ القرارات في الأوقات الحرجة، وصولاً إلى الاحترافية في إدارة الأزمات الدولية والدول المجاورة.
الدبلوماسية السياسية.. فن التفاوض والتحكم دون صدام مباشر
الدبلوماسية السياسية هي الفن الذي يستخدمه القادة لتجنب المواجهات المباشرة وتحقيق المكاسب من خلال التفاوضات والتحالفات.
إن في التاريخ العظيم، نجد نموذجًا واضحًا في معاهدة «صلح الحديبية»، حيث أظهر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قدوة وقدرة على تحقيق مكاسب إستراتيجية عبر التفاوض بدلاً من الدخول في صراع مباشر مع قريش؛ هذه الاتفاقية بدت للوهلة الأولى وكأنها تنازل، لكنها في مضمونها وعمقها مهدت الطريق لفتح مكة بعد ذلك بسنوات قليلة.
وبالمقاربة مع اتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر و«إسرائيل»، في عام 1979م، حيث استخدام الدبلوماسية السياسية لاستعادة الأراضي المصرية المحتلة، رغم المعارضة الكبيرة في العالم العربي، لكنها مرحلة تاريخية جسدت الدبلوماسية السياسية، فكلا المثالين يوضح أن الدبلوماسية السياسية تستطيع تحقيق المكاسب دون الدخول في صراعات طويلة الأمد، فهي البداية التي تتبعها دبلوماسية شعبية تمثل مرحلة انتقالية.
الدبلوماسية الشعبية.. قوة الجماهير في صناعة التغيير
تأتي الدبلوماسية الشعبية عندما يتحرك الشعب بأكمله ليضغط في مجالس الشعب والبرلمانات، وبالمواقف والأحداث، وبالاحتجاجات والإعلان عن الفساد والانهيارات والطغيان والاستيلاء على موارد البلاد، ففي العصور القديمة، نجد أن حركات مثل مقدمات الثورات، كانت تسمى بالاحتجاجات والإضرابات الفلاحية في مصر القديمة، كانت أحد مظاهر الدبلوماسية الشعبية، حيث استطاع الشعب من خلال احتجاجات سلمية أن يعبر عن استيائه من الفساد والظلم، فهي الانتفاضة الجماعية التي أدت إلى تغيير النظام وإدخال إصلاحات جوهرية جذرية.
وفي القرن العشرين، كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى نموذجًا قويًا للدبلوماسية الشعبية، حيث استطاع الشعب الفلسطيني من خلال المقاومة المدنية اللاعنفية أن يجذب انتباه العالم إلى معاناته؛ ما أدى إلى تحول في الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية، انتفاضة شعب حر أبي، يطلب الحرية، ويأبى العبودية والإذلال، وقد جسد الصمود، مستهدفاً الصعود نحو الحق والحرية والعدالة والكرامة، بتطبيق منهجية الدبلوماسية الشعبية، بمحاولة الدخول في الكنيست إلى الميادين الشعبية في أروع صورها التي تُظهر أن إرادة الشعوب تستطيع أن تحدث تغييرات كبرى دون الحاجة إلى جيوش، فإن لم يتحقق الصعود، فالدبلوماسية الثورية هي المرحلة التالية.
الدبلوماسية الثورية.. التحول الجذري بالتصعيد الثوري
عند استنفاد كل الأساليب السلمية للدبلوماسية الشعبية، تأتي الثورة لتكون الأداة الحاسمة في تغيير الأنظمة القمعية وإعادة بناء المجتمعات الثورية الحرة، كما في العصور القديمة، حيث كانت ثورة العبيد في روما إحدى أعظم الأمثلة على الدبلوماسية الثورية، ولا يخفى على دارس وباحث وثائر، ما قامت به هذه الثورة ضد القمع والاستبداد لتحرير العبيد، رغم أنها لم تحقق النجاح الكلي، فإنها صنعت تحولاً تاريخياً، طوره العصر الحديث.
ففي العصر الحديث، كانت الثورة الفرنسية من أبرز النماذج على صناعة التغيير، بالتحولات الجذرية في تغيير النظام الملكي المطلق إلى نظام جمهوري، فأحدثت تغييرات جذرية في السياسة والاجتماع والاقتصاد؛ هذا التحول الجذري كان نتيجة صعود في الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات، وصمود شعبي على مدى سنوات، رغم تمادي الظلم، وزاد الطغيان، فكان الانتقال حتمياً للدبلوماسية العسكرية.
الدبلوماسية العسكرية.. عند إغلاق الأبواب وتعالي الظلم والاحتلال يكون الطوفان هو المآل
فعندما تُغلق جميع الأبواب الدبلوماسية بمرتكزاتها الثلاثة، تأتي القوة العسكرية كخيار أخير لحسم الصراع والصعود إلى الحصول على الحق والأرض وحماية العرض، ففي التاريخ لنا قدوة وقدرة ونموذج للدبلوماسية العسكرية في معركة «حطين» التي قادها صلاح الدين الأيوبي في عام 1187م، كانت في الوقت المناسب لاستعادة القدس دون الدخول في حروب استنزاف طويلة.
وفي أكتوبر، نجد نموذجاً على استخدام الدبلوماسية العسكرية، في استخدام القوة العسكرية لتحرير الأراضي المحتلة، وهو ما أدى لاحقًا إلى تحفيز المفاوضات السياسية التي انتهت باتفاقية «كامب ديفيد»، ثم كان الاستخدام الثاني للدبلوماسية العسكرية نموذجاً علمياً وعملياً في «طوفان الأقصى».
وفي كلمات، نوجز إستراتيجيات التحول بتوقيت التغيير تتجلى فيما يلي:
إن قوة التحول الناجح في إدارة الأزمات تقوم على مزيج من الإستراتيجيات التي توظف فيها الدبلوماسيات المختلفة بحسب الظروف والمكان والزمان، والحال والمآل، ولها ثمن تعلوه أرواح ودماء زكية طاهرة نقية، تجسد صعود الروح قبل صعود الأوطان، ولا يمكن الاعتماد على أداة واحدة فقط لتحقيق النصر، بل يتطلب الأمر تحالفات واتحادات، ورباط وقيادات حكيمة؛ تستطيع استخدام القوة السياسية والشعبية والثورية والعسكرية في آن واحد، وفقًا لما تقتضيه الحاجة للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية؛ بل هو من رحم المعاناة ونتيجة لتخطيط متأن وذكاء في إدارة الصراعات والنزاعات والأزمات والحق في الحياة والمآل والمصير، مثلما حدث في الحركات الثورية التي أعادت تشكيل العالم.
لذا، فالأمة التي تعرف كيف تصمد وكيف تصعد هي الأمة التي تعرف متى تتفاوض ومتى تتحرك ومتى تخوض المعركة، فالصمود والصعود وجهان لعملة واحدة، يقومان على الحكمة في التعامل مع الأزمات واستثمار كل فرصة لتحقيق التمكين والاستقلال.
صلاح الأمة صلاح راع ورعية وقيادة رسالية
ويبقى شرط الصلاح، يحقق الوعد الحق الذي يضيء طريق الصامدين، كما جسده قول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، فالصمود وحده لا يكفي لتحقيق النصر، بل يجب أن يكون مقرونًا بالصلاح؛ لأن الأرض لا تُمنح إلا لمن يستحقها، لأن الأمة التي تجمع بين الصمود والعمل الجاد والتخطيط الذكي، هي الأمة التي تحقق وعد الله بالتمكين.