أضحت نحو 1300 جامعة ومعهد عالي في بلادنا العربية مصنعاً هائلاً للمتعطلين عن العمل، حتى باتت البطالة هاجسا يؤرق كل الأسر العربية، خاصة أن الدراسات تشير إلى أن نحو 50% من الوظائف التقليدية في العالم في طريقها للاختفاء بحلول عام 2030م.
وقد أثارت تلك التطورات جدلاً مجتمعياً محتدماً حول مخرجات المؤسسات التعليمية وحاجة سوق العمل، كون أن الكثيرين يرون أن أنظمة التعليم والمناهج الحالية لم تعد تتناسب مع تطور سوق العمل والتغييرات في طبيعته، فهي لا تزود الشباب بالمهارات الأساسية اللازمة للنجاح في اقتصاد اليوم.
حول العلاقة بين مخرجات التعليم وحاجة سوق العمل، كان حوار «المجتمع» مع أ.د. فضيل براهيم مزاري، المحاضر بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الشلف بالجزائر، المهتم بقضية التعليم ومخرجاته في العالم العربي.
تعاني أمتنا من أزمة حضارية ذات محاور متعددة، برأيكم كيف يلعب التعليم كرأس حربة للنهوض؟
– التعليم من أهم الركائز الأساسية للنهوض الحضاري، من خلال إعداد الإنسان الواعي القادر على تحمل مسؤولياته العلمية والعملية؛ القيمية والوظيفية التي تجعل منه مواطناً إيجابياً، وفاعلاً حضارياً؛ فالتعليم بمختلف مستوياته، وبمنهجه ومواضيعه، يستهدف إعداد إنسان يدرك معنى الاستخلاف والهم الحضاري وسلبيات التبعية، وكيف يكون عنصراً إيجابياً.
النمو الديمغرافي والفساد أضرَّا بميزانيات التعليم في العالم العربي
غير أنه وبالنظر لعناصر العملية التعليمية المتشكلة من المنهج، والتدريس، وإدارة العملية التعليمية، يكشف أن السياسة التعليمية ببلادنا ما زالت تعاني رواسب الماضي، ولم تنتقل لمتطلبات التنمية وبناء الدولة العصرية، فهي استمرار للسياسة التعليمية في مرحلة خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي التي كانت تستهدف تحرير الإنسان من الجهل، لكن اليوم الأمور تغيرت بشكل جذري، والعالم يعيش تحولات كبرى تكنولوجية وصناعية تستدعي الانتقال لمرحلة أخرى لعملية تعليمية تبني إنساناً مبدعاً يعتمد على قدراته الذاتية في البحث والتعلم.
يرى البعض أن المواءمة بين مخرجات التعليم وسوق العمل تحدٍّ يواجه عالمنا العربي، ما مدى صوابية ذلك؟
– أكيد، فالواقع يؤكد وجود فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، أو ما يمكن أن نسميه بالتعبير الاقتصادي البطالة الهيكلية، فتوجه السياسة التعليمية العربية وتركيزها على الكم بدل الكيف، أدى لوجود شريحة واسعة من الخريجين الجامعيين حتى من الدراسات العليا في طوابير انتظار فرص عمل.
البعض يربط بين تفاقم هذه الظاهرة ومناهج التعليم والتدريب، هل ترون ذلك؟
– بالفعل، يجب التركيز على المنهج الذي هو بحسب د. محمد نصر عارف، التوليفة من العلوم والمعارف والأفكار والمعلومات والقيم والمهارات التي يتم تقديمها للمتعلم طيلة مراحل الدراسة؛ وعليه فهو أحد أوجه الأزمة، حيث ركزت الإصلاحات على الجزئيات دون الكليات، واستوردت بطريقة مشوهة طرقاً ومناهج جديدة وأدخلتها بشكل تعسفي في النظام التعليمي، فالاقتصاد العربي ومتطلبات إنهاء التبعية الاقتصادية للدول العربية تقتضي وضع برامج تعليمية لتوفير رأسمال بشري قادر على النهوض بالتنمية على الطريقة الكورية الجنوبية والسنغافورية وحتى الألمانية في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.
هل لحجم الإنفاق على التعليم من أثر على حدوث المشكلة؟
تتميز الدول العربية بسياساتها الاجتماعية، التي من بين أهم مرتكزاتها التعليم المجاني، كما أن بعض الدول العربية أكدت على التحرر من التخلف الذهني وتخليص الإنسان من القابلية للاستعمار والتبعية للغرب، وبهذا خصصت ميزانيات سنوية لتعميم التعليم في كل أرجاء الوطن، وهذا كله يعتبر عملاً إيجابياً مميزاً، لكن المشكلة في العملية التعليمية في حد ذاتها؛ كيف وماذا نعلم؟ من الذي ينبغي أن يستمر في المؤسسات التعليمية؟ ما مدى مواءمة المادة التعليمية مع متطلبات التنمية؟ وغيرها من الأسئلة التي شكّلت مع مرور الوقت تحديات جمّة أدت لوجود تراكمات أثقلت كاهل المؤسسات التعليمية برمّتها.
سياسات التعليم لم تساير التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى
كما أن الإنفاق على التعليم ببلادنا غير مرتبط بسياسات العصرنة التي تتعلق بتجهيز مؤسسات تعليمية عصرية وبرامج حديثة ووسائل متقدمة والتوجه نحو الرقمنة والذكاء الاصطناعي والتركيز على تعليم مبادئ الأمن السيبراني وقيم العمل والالتزام الاجتماعي وغيرها، فميزانيات التعليم انتفخت نتيجة النمو الديمغرافي من جهة، وما يتطلبه من زيادة بناء المؤسسات التعليمية وإعداد متطلباتها، وكذلك الفساد الكامن في هذا القطاع، لا سيما عندما يتم الحديث عن الإصلاح وتشكيل لجان للإصلاح وغيرها.
يعتقد البعض أن ثمة جهداً يبذل في تدريس العلوم الاجتماعية والإنسانية التي لم تعد تحتاجها سوق العمل، هل المشكلة في طبيعة هذه العلوم أم في افتقاد القدرة على توظيف دارسيها بالشكل اللائق؟
– هذا سؤال مهم جداً، حيث يعالج مسألة واقعية اصطدمت بها الحكومات العربية منذ تسعينيات القرن العشرين، والمشكلة تتعلق بالكم الهائل لدارسي العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكذا في تدريس هذه التخصصات، وضعف طلبتها في التحصيل العلمي في اللغات الأجنبية، وهذا راجع لكون هذه التخصصات لا تتطلب معدلات كبيرة للولوج إليها، حيث تستقطب ذوي المستويات العلمية المحدودة، فمعايير الولوج إلى الجامعة تم تمييعها، والانتقال ما بين الأطوار أصبح يعتريه العديد من النقائص، وكذا متطلبات الحصول على الشهادة تم تبسيطها إلى حد حصول الغشاشين والمتسيبين وغير المهتمين على شهادات جامعية دون أي مستوى يذكر، وانتشر هذا بشكل واسع في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية التي لا يتعلم فيها الطالب أي مهنة أو حرفة يشتغل عليها بعد تخرجه في الجامعة.
الهوة شاسعة بين التعليم الأكاديمي واحتياجات السوق، كيف ترون هذه المعضلة؟ وهل ثمة خطوات للحل؟
– منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين بدأت الإصلاحات الاقتصادية بالعديد من الدول العربية التي أدت لانسحاب الدولة بشكل تدريجي من القطاع الاقتصادي وفتح المجال للقطاع الخاص الذي يبحث عن الرأسمال البشري بصفته «سلعة»؛ بما يعني كم أستفيد منه، كما أنه يسعى لتقليص عدد العمال بأكبر قدر ممكن؛ وهذا بدوره أدى لمحدودية الطلب على الخريجين الجامعيين والتوجه نحو مراكز التكوين المهني والتدريب.
معايير الالتحاق بالجامعة مُيِّعت والحصول على الشهادة يجري بالغش
كما أن سياسات التعليم لم تساير التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى، وبالتالي تشكلت فجوة كبيرة بين الموجود والمأمول؛ الأمر الذي دفع للتوجه دائماً لمراكز التدريب التي توفر عمالاً مهنيين وحرفيين بوقت وجيز عكس التعليم الأكاديمي الذي يتطلب مساراً لا يقل عن 3 سنوات.
هل يمكن إلقاء الضوء على العلاقة العضوية بين التعليم وسوق العمل في بلدان العالم الأول؟
– يذكر السوسيولوجي الفرنسي ألان تورين أن من أغرب الأجوبة التي تلقاها بالدراسات الميدانية، أن مواطناً فرنسياً عندما سأله: من تكره؟ أجاب: الأستاذ؛ لأنه كان يكذب علينا ويقول لنا: إنكم ستتخرجون وتحصلون على وظائف تمكنكم من الاندماج في المجتمع وتحقيق مكانة متميزة اجتماعياً.
فالجواب يعكس أن الأزمة عابرة للأوطان، إلاّ أنه ينبغي التركيز على أن الدول المتقدمة أدركت أن التنمية لا يمكن أن تبدأ إلا بإصلاح جذري لقطاع التعليم بمختلف أطواره، وبهذا اتجهت العديد من الدول لإصلاح نظامها التعليمي، لإدراكها منطلقات التنمية الاقتصادية الحقيقية، واتجهت للتركيز على الجودة، والعلوم التطبيقية، وكذا اللغات، مع إدماج القيم الوطنية في العملية التعليمية.
ماذا عن التعليم الموازي، مثل الدورات و«الكورسات» المدفوعة، برأيكم هل يمكن أن يعالج الخلل بالتعليم الأكاديمي؟
– ما يميز هذه الدورات هو تنظيمها من طرف القطاع الخاص الذي يمتهن الجشع وجمع المال، ومدة التكوين فيها لا تتجاوز غالباً 3 أسابيع؛ وبالتالي لا يمكن أن تعوض الخلل أو تملأ الفراغ، فالأزمة أعمق بكثير، والأمر يحتاج لإصلاح جذري للنظام التعليمي، وإعداد مراكز للتكوين العصري.
وهل الجامعات الخاصة تعاني نفس معاناة الجامعات الحكومية؟
– نعم، فالجامعات الخاصة تعتريها العديد من النقائص، وتحتاج لإصلاحات، وأنا لا أتصور أنه سيكتب لها النجاح في ظل السياسات التعليمية وسياسات التشغيل الحالية.