تتوالى خطط التطوير المعنية بالنهوض بالنظام التعليمي في العديد من دول العالم، سواء ما يتعلق بالمناهج، أو طرق التدريس، أو معايير التقييم، وصولاً إلى خفض سنوات الدراسة، وتقليص المدى الزمني للعملية التعليمية من التمهيدي (الحضانة) إلى الحصول على الدرجات العلمية بانتهاء مرحلة التعليم العالي.
ثمة تساؤلات باتت ملحة على طاولة المعنيين بالمنظومة التعليمية في المنطقة العربية، من مسؤولين وخبراء وهيئات تدريس وأولياء أمور وطلاب، أبرزها: هل هناك ضرورة فعلية لقضاء قرابة 20 عاماً بين مقاعد الدراسة (سنتان تمهيدي + 6 سنوات ابتدائي + 3 سنوات إعدادي + 3 سنوات ثانوي + 4 أو 6 سنوات جامعي)، بالنظر إلى أن بعض الكليات العلمية تتطلب الدراسة فيها 5 أو 6 سنوات.
الواقع يقول: إن الطالب العربي ينهي جميع مراحل التعليم في سن الـ22 أو 24 عاماً، وقد يمتد الأمر إلى أبعد من ذلك، مع قضاء فترة التجنيد الإلزامي في بعض الدول، دون أن يدخل بعد إلى سوق العمل، أو إلى دولاب الحياة الاجتماعية بشكل عام من وظيفة وزواج وأسرة وغير ذلك من أحلام وطموحات الحياة، فهل استفادت بلادنا جدياً من هذه النظم؟ وهل هذا استثمار حقيقي في شبابنا وعقولنا؟ وما العائد على أبنائنا من كل ذلك؟
هل هناك ضرورة فعلية لقضاء أبنائنا الطلاب قرابة 20 عاماً بين مقاعد الدراسة؟!
الإجابة عن تلك التساؤلات تتطلب المزيد من الواقعية، والمصارحة، والتقييم، بشأن مخرجات العملية التعليمية، ومدى جودة المنتج النهائي فيما يتعلق بمتطلبات سوق العمل، والقدرة على الإبداع والإنجاز، بما يخدم خطط البلاد التنموية، ويواكب التحولات الاقتصادية الكبرى في العالم.
بحسب دراسة صادرة عن مركز «بيو» الأمريكي للأبحاث، فإن جامعات عالمية تدرس تقليص مدة التعليم إلى 3 سنوات فقط، من خلال اعتماد برامج متطورة تمنح درجة البكالوريوس في 3 سنوات بدلاً من 4، في محاولة لتوفير الوقت والمال والجهد للطلاب، واستثمار طاقة بشرية ضمن مسار أسرع للانخراط في سوق العمل.
هذا التوجه يلبي احتياجات بلدان أوروبية وغربية تعاني شيخوخة في تركيبتها السكانية، ونقصاً حاداً في عمالة الشباب، إضافة إلى أن قدراتها في مجال التعليم، وإمكاناتها المتطورة على صعيد الوسائل والمناهج والكوادر، تؤهلها لانتهاج هذا المسار، بينما قد لا يكون الأمر ملائماً في بلدان أخرى، تعاني من الأساس ارتفاعاً في معدلات الأمية، ونقصاً في الفصول الدراسية، وتدهوراً في البنى التحتية، وتراجعاً في مؤشرات جودة التعليم.
يؤخذ في الاعتبار عند مدارسة القضية المطروحة للنقاش معايير أخرى مثل الوضع الاقتصادي، والاختلاف بين التخصصات النظرية والعلمية، وكفاءة عناصر المنظومة التعليمية التي تشمل المعلم، والمتعلم، والمنهج، وبيئة التعلم، مع ضرورة تفاعل هذه العناصر مع متطلبات سوق العمل؛ للوصول إلى المخرجات المطلوبة التي تواكب التطور التكنولوجي الهائل في القرن الحادي والعشرين.
معايير منضبطة
تؤكد دراسة صادرة عن جامعة هارفارد الأمريكية إمكانية تخفيض سنوات الدراسة من خلال تطوير المناهج، وتحسين طرق التدريس، والاستعانة بالوسائل الحديثة؛ بما يصب في نهاية الأمر في اتجاه تطوير مدخلات ومخرجات التعليم، بموازاة تقليص المدى الزمني للعملية التعليمية.
ويقول خبراء تربويون: إن تخفيض سنوات الدراسة له جوانب إيجابية، منها إزالة الحشو والتكرار من المناهج، والحد من الكثافة العالية للفصول، وإتاحة الفرصة لتطبيق نظام اليوم الكامل، وتوفير النفقات، وتوجيه المبالغ المالية التي توفرت نتيجة تخفيض سنة إلى تطوير الوسائل التعليمية.
دراسة: إمكانية تخفيض سنوات الدراسة بتطوير المناهج وتحسين طرق التدريس والاستعانة بالوسائل الحديثة
وتفيد دراسة قام بها مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في البلاد العربية، بأن التعليم الأساسي لمدة 8 سنوات هو الأفضل مقارنة بالتعليم الحالي لمدة 9 سنوات، شريطة تحقيق معايير، منها زيادة فترة الدراسة اليومية بمقدار 30%، وزيادة مدة الدراسة من 32 أسبوعاً إلى 40 أسبوعاً، وتطوير برامج الدراسة.
وقد يحمل هذا الاتجاه، في طياته، فوائد عدة لدول فقيرة تعاني من أعباء اقتصادية كبيرة، ونقص في موازناتها المالية، إضافة إلى زيادة كثافة الفصول وتعدد الفترات الدراسية؛ ما يتطلب حلولاً نوعية تعالج هذا الخلل، دون المساس بجوهر العملية التعليمية أو مضمون التعليم، فالعبرة ليست بعدد السنوات ولكن بجودة العام الدراسي نفسه.
في هذا السياق، تتعدد صور الاختصار والتقليص، وهي تتسم بالتنوع والمرونة، وتختلف حسب النظام التعليمي المتبع في كل بلد، من التسريع في القبول المبكر لطلاب الصف الأول للدخول للمدرسة من سن 5 أعوام وليس 6 سنوات كما هو سائد الآن، أو دمج المواد الدراسية، أو تسريع نقل الطالب من صف إلى صف دراسي أعلى، مع مراعاة الفروق الفردية والقدرات الخاصة لكل طالب، بمعني أن النظام لا يسري على الكل، بل يتم وفق معايير منضبطة، تلبي الاحتياجات العلمية عند الطلاب المتفوقين.
ومن برامج التسريع الأكاديمي في التعليم العالي، منح طلاب الثانوية المتفوقين بعض المقررات الجامعية بالتزامن مع دراستهم في المرحلة الثانوية، كما هي الحال في جامعة جدة، أو تقسيم الدراسة لـ4 مستويات، وبناء عليه يمكن للطالب أن ينتهي من الدراسة في 4 سنوات أو 3 سنوات، بحسب قدرته على إنهاء هذه المستويات على غرار كلية الهندسة جامعة القاهرة.
وهناك نظام الساعات المعتمدة الذي يقيس أهلية الطالب للتخرج في الكلية بمجرد الانتهاء من دراسة المقررات والساعات التي تقرها لائحة الكلية التي يدرس بها، وبالتالي ليس شرطاً البقاء في الكلية لمدة 4 سنوات، وهو نظام يبدو أكثر مواءمة للكليات النظرية، فليس من المنطقي أن يبقى الطالب في كلية الآداب مثلاً 4 سنوات، وهو يدرس مناهج نظرية يمكن أن يستوعبها خلال 3 سنوات فقط، على أن يتم تقييمه بتعدد الاختبارات على مدار الفصل الدراسي، حيث لا يقتصر تقييم الطالب على امتحان نهائي.
تقليص سنوات التعليم مع الحفاظ على كفاءة المنظومة التعليمية تحدٍّ يتطلب إدارة ناجحة وسياسات واعية
ومن الممكن إعادة جدولة العام الدراسي، على أن تكون الدراسة 8 أشهر، ويمنح الطالب شهرين إجازة، ثم يبدأ العام الدراسي الجديد؛ أي أننا نستطيع وقف الهدر التعليمي، وتوفير نحو 3 سنوات من العمر التعليمي للطالب، دون إخلال بالعملية التعليمية، مع حسن توظيف تقنيات التعليم عن بُعد، ووسائل التكنولوجيا والتواصل الحديثة في تحسين مخرجات المنظومة برمتها.
إن تقليص سنوات التعليم، مع الحفاظ على كفاءة المنظومة التعليمية؛ تحدٍّ كبير، يتطلب إرادة قوية، وإدارة ناجحة، وسياسات واعية، تستقي الحكمة من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمّر أسامة بن زيد رضي الله عنه على جيش ضم عدداً من كبار الصحابة منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عمره 18 عاماً وفي رواية 17 عاماً؛ ما يعني أنه في تلك السن لم يبق طالب علم فحسب، بل قائداً أيضاً.