إن التطبيع العربي مع دولة الكيان الصهيوني في سياق الحرب على غزة يُظهر تعقيد العلاقة بين المصالح الوطنية والإقليمية من جهة، والضغوط الشعبية والإنسانية من جهة أخرى، ولعل تطور الأحداث في غزة قد يؤثر بشكل كبير على المستقبل السياسي للعلاقات بين العالم العربي ودولة الكيان، ويعكس التناقضات والضغوط داخل المنطقة، خاصة وأنه يأتي في وقت حساس مع استمرار حرب الإبادة الصهيونية على غزة، التي أدت إلى تدمير البنية التحتية والاقتصادية ومقتل وتهجير مئات الفلسطينيين، وفاقمت الأزمة الإنسانية؛ مما ولَّد مزيداً من المشاعر الغاضبة في الشارع العربي، الذي كان وما زال ينظر إلى التطبيع العربي مع دولة الكيان واتفاقاته على أنه خيانة عظمى للقضية الفلسطينية.
حرب غزة والتطبيع
لقد ألقت عملية «طوفان الأقصى» بظلالها على العديد من المعادلات السياسية والعسكرية في المنطقة والعالم، ومما لا شك فيه أن تداعياتها ستؤثر على المنطقة لسنوات عديدة، لكن تأثيرها على مشروع التطبيع الصهيوني- العربي واستكمال اتفاقياته سيكون له حصة كبيرة من تداعيات هذه الحرب، لا سيما مع تعليق محادثات التطبيع مع بعض الدول بسبب حرب الإبادة الصهيونية على غزة.
لقد خلفت حرب الإبادة التي شنتها دولة الكيان على غزة منذ السابع من أكتوبر، التي تدخل عامها الثاني مأساة إنسانية عجز العالم حتى الآن عن وقفها، ونتيجة لهذه الحرب الدامية والمدمرة، تلقى مسلسل التطبيع الصهيوني- العربي ضربة موجعة، أدخلته مرحلة الجمود، أو ثلاجة الانتظار على أكثر من مستوى، لا سيما مع التنديد الواضح للدول المطبعة بالوضع الكارثي والإنساني في قطاع غزة، ودعواتها المتعددة لوقف الحرب مع تمسكها بحق الشعب الفلسطيني في إنشاء دولته الفلسطينية، إلا أنها لم تقوض منطق العديد من الدول العربية في تطبيع العلاقات مع دولة الكيان، حيث لا يزال منطق الدول العربية في تطبيع علاقاتها مع دولة الكيان جليًا حتى في خضم الخطابات الحادة والجهود الدبلوماسية العربية المكثفة التي أثارتها حرب غزة، الذي كان بعضها على شكل نهج جماعي، وما تزال الجهود التي تبذلها الدول المطبعة لإبقاء الباب مفتوحًا أمام التطبيع، حتى مع تكثيف المناورات الدبلوماسية وزيادة حدة الرفض للسياسة الصهيونية بحق الفلسطينيين في غزة.
انعكاساتها وتأثيراتها
هذه الحرب الدائرة اليوم مهما طالت، فإن مصيرها إلى النهاية، لكن مشاهد الدمار والقتل والتشريد والنزوح ستظل عالقة في أذهان الجماهير والشعوب، وفي الوعي العام العربي، ما من شأنه أن يمنع أي استئناف سريع لزخم عملية التطبيع، فالحقائق على الأرض في قطاع غزة، التي تعززها الديناميكيات السياسية الصهيونية الداخلية، واللهجة الخطابية لأعضاء ائتلاف نتنياهو من اليمين المتطرف، والأهداف المرجوة من هذه الحرب، تجعل من الصعب التنبؤ بكيفية إنهائها، ولو على الأقل بطريقة يمكن أن تساعد في تهدئة الرأي العام المتشدد في العالم العربي ولو قليلاً، لأن استمرارها يعني ارتفاع الثمن الدبلوماسي الذي ستدفعه دولة الكيان مقابل التطبيع، كمطالبتها بتقديم تنازلات سياسية مكلفة تتعلق بالدولة الفلسطينية والوضع النهائي في قطاع غزة، مع الجزم بأنها لن تتحقق، إلا أنها ستبقى تلوح في الأفق طالما استمرت الحرب، وظلت الظروف المروعة في قطاع غزة هي محور التركيز.
لقد أحدثت الحرب على غزة تأثيرات كبيرة على علاقات الدول العربية المطبعة مع دولة الكيان وهي:
– الضغوط الشعبية: فالتطبيع اليوم في ظل الحرب المستمرة على غزة يواجه تحديات من جانب الرأي العام في بعض الدول العربية، حيث يشعر كثيرون بالقلق والاستياء بسبب حرب الإبادة في غزة والمعاناة الإنسانية، وتزايدت الأصوات الشعبية المعارضة للتطبيع في العديد من البلدان العربية، ما قد يفرض على الحكومات إعادة النظر في علاقاتها مع دولة الكيان، وقد تُضطر بعض هذه الحكومات إلى اتخاذ مواقف علنية ضد السياسات الصهيونية، أو تقديم دعم أكبر للحقوق الفلسطينية لتجنب تآكل شعبيتها.
– التحول في الخطاب السياسي العربي: فالحرب في غزة تذكّر الدول العربية بالمواقف التقليدية حول دعم القضية الفلسطينية، وتقديم الدعم السياسي والإنساني للشعب الفلسطيني؛ الأمر الذي ساهم في بروز أصوات قد تكون مهتمة بالاستمرار في مسار التطبيع، ولكنها قد تشكل ضغطًا على حكوماتها، وتدعو إلى التركيز على حل عادل للقضية الفلسطينية كشرط رئيس للسلام والتطبيع في المنطقة.
– الضغط السياسي: الحرب على غزة قد تدفع بعض الحكومات العربية إلى تأجيل عمليات التطبيع، والتأكيد على مواقف دعم حقوق الفلسطينيين كشرط أساسي في أي علاقات تطبيعية مع دولة الكيان.
– الدور الدولي: رغم الضغوط الإقليمية، قد تظل بعض الدول تسعى لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية من خلال التعاون مع دولة الكيان، مع التأثير نوعاً ما على الموقف الدولي والعالمي من خلال الضغط على دولة الكيان لإنهاء حربها على غزة ومعاناتها لاستمرار التطبيع.
الضغط الدولي والمواقف الغربية
– الدور الأمريكي: الولايات المتحدة، كحليف رئيس لدولة الكيان، قد تجد نفسها في موقف صعب، فمن جهة، تريد دعم حليفتها في دفاعها عن نفسها ضد الهجمات من غزة، ومن جهة أخرى قد تواجه ضغوطًا متزايدة من المجتمع الدولي وبعض الدول العربية لإدانة التصعيد العسكري الصهيوني، وقد يؤثر هذا الضغط في مسار التطبيع، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة تشجع على العودة إلى محادثات السلام أو تدفع نحو حلول سياسية.
– الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة: سيكون لهما دور في محاولة الضغط على دولة الكيان من خلال الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية، وقد يؤثر ذلك على الدول العربية في خياراتها المتعلقة بالتطبيع، وقد تعيد بعض الدول العربية تقييم موقفها بناءً على دعم الدول الغربية للقضية الفلسطينية أو موقفها من الحرب الصهيونية.
العوامل الاقتصادية والأمنية
– المصالح الاقتصادية: رغم الضغط الشعبي، قد تظل بعض الدول المطبعة تستفيد من التعاون الاقتصادي مع دولة الكيان في مجالات، مثل: التكنولوجيا، والطاقة، والسياحة، وسيستمر هذا التعاون الاقتصادي في حال الحفاظ على المصالح الاقتصادية الإستراتيجية، لكن قد يشهد مزيدًا من القيود أو التعديل في صيغة هذه العلاقات.
– الاعتبارات الأمنية: قد تدفع الحرب في غزة بعض الدول العربية، خصوصًا تلك المعنية بالتهديدات الأمنية إلى مواصلة التعاون الأمني غير المعلن مع دولة الكيان، هذه الاعتبارات قد تستمر في التأثير على شكل علاقات بين بعض الدول العربية ودولة الكيان.
– المسار المستقبلي: المصير طويل المدى للتطبيع يعتمد على تطورات الصراع في غزة، وعلى مدى قدرة الدول العربية على التوازن بين مصالحها الوطنية وحقوق الفلسطينيين، فإذا استمر النزاع دون حل عادل، قد يواجه التطبيع تحديات أكبر على مستوى التسريع والتطبيق.
بالمجمل، فإن الحرب في غزة قد تؤدي إلى تقليص زخم التطبيع، لكنها في الوقت ذاته قد تساهم في إعادة تشكيل السياسات الإقليمية وفقًا لتطورات الوضع الفلسطيني، وتُشكل اختبارًا قويًا لمسار التطبيع في المنطقة، وتؤدي إلى تباطؤ كبير في وتيرة التطبيع، وربما حتى تراجع بعض الدول عن سياساتها السابقة، لكنها في الوقت نفسه قد تفتح الباب لمناقشات أوسع حول الحاجة إلى حلول سلمية شاملة للقضية الفلسطينية، لضمان استقرار المنطقة واستمرار التطبيع.