من أصعب اللحظات على الإنسان أن يصل إلى حالة من الانهيار، لا يستطيع معها أن يعود لتصحيح الخطأ أو تصويب المسار، وأصعب منها أن ترى الشخص الذي قادك إلى هذه اللحظة وهو يتبرأ منك، وينكر ما فعله معك، إنها اللحظة التي يتبرأ فيها الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا، وهي التي ينادي فيها الشخص قائلاً: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً) (الفرقان)، وهي اللحظة التي ينادي فيها الله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67).
إن تذكر هذه اللحظة العصيبة يدفع المسلم إلى الحرص على أن يجالس الصالحين، الذين يأخذون بيده إلى الله تعالى، فينقذونه من الندم والعذاب، ويحملونه على الطاعة والعبادة لله رب العالمين، ولا يتركونه حتى يستظلواً جميعاً في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، ويتنعمون بالجنان العالية بسبب الصحبة المعينة على طاعة الله، فما أهم صفات الجلساء الذين يحصدون الخير لأنفسهم وجلسائهم؟
لقد حرص الصحابة على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن جلسائهم ورفقائهم، ففي الحديث الذي رواه أبو يعلى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ»، ففي هذا الحديث الشريف بيان لصفات خير الجلساء، ويظهر ذلك فيما يأتي:
أولاً: مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ:
إن خير جليس هو من إذا رأيته ذكّرك بالله عز وجل، وأعانك على طاعته، ويدل على هذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي مالك الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى»، فهؤلاء الجلساء يتمسكون بعمل الصالحات، حتى تصير علامة عليهم، فكلما رآهم الناس؛ ذكروا أعمالهم الصالحة وصفاتهم الطيبة؛ فيكون ذلك سبيلاً إلى تذكير الناس بالله.
ولهذا، مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الناس، وذلك في الحديث الذي رواه الطبراني عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الموفون الْمُطَيِّبُونَ»؛ أي الذين يتمسكون بالخلق الحسن، وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»، فالخيرية المطلوبة تظهر في حسن الخلق الذي يتميز به الإنسان، حتى إذا رآه الناس ذكروا الله عز وجل.
كما لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى فريق من الناس يكون من خير الجلساء، وهم المؤذنون للصلاة، فهؤلاء يذكرون الناس بالله، وينادونهم إلى الصلاة، فكلما رأينا المؤذن ذكرنا الله تعالى، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذنين من خيار عباد الله، ففي الحديث الذي رواه الطبراني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أقسمت لبررت، وإن أحب عباد الله إلى الله لرعاة الشمس والقمر (يعني المؤذنين)، وإنهم ليعرفون يوم القيامة بطول أعناقهم».
وروى الحاكم في المستدرك عن عبدالله بن أوفى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأهلة لذكر الله».
ثانياً: من زَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ:
أوضح الحديث الشريف الصنف الثاني من خير الجلساء، وهم الذين يتحدثون بالخير، ويحرصون على تعليم الناس الخير، فهم الذين يتحول كلامهم إلى منابر لتعليم الناس وإرشادهم إلى طريق الله تعالى، وخير هؤلاء هم أهل القرآن الكريم، حيث أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير الناس من تعلم القرآن وعلَّمه، فقد روى البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ».
وخيرية أهل القرآن تظهر في أنهم يحملون خير الكلام، ويزداد الناس به علماً ونوراً وهداية، قال المناوي عن هذا النوع من الناس: إنه إذا نطق، نطق بآلاء الله وصنعه، فهذا أصل العلم، والعلم الذي في أيدي العامة فرع هذا، وآلاء الله ما أبدى من وحدانيته وفردانيته كالجلال والعظمة والهيبة والكبرياء والبهاء والسلطان والعز والوقار على قلوب الأولياء، وفي التأكيد على مصاحبة من تستفيد من حاله ومقاله أوصى ابن عطاء الله السكندري أهل السلوك إلى الله تعالى بقوله: لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله.
ثالثاً: من ذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ:
خير جليس من إذا رأيت عمله تذكرت الآخرة وعملت لها، فهذا أعقل الناس، ويدل على هذا ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي، وابن ماجه، عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ»؛ قال المناوي رحمه الله: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «يرغبكم في الآخرة عمله»؛ فلأن على عمله نوراً، وعلى أركانه خشوعاً، وعلى تصرفه صدق العبودية مع بهاء ووقار وطلاوة وحلاوة، فإذا رآه الرائي تقاصر إليه عمله ونفسه.