قيام الليل وقود المؤمن ومعينه الذي لا ينضب، وهو أمر الله تعالى لنبيه في فجر دعوته ليستمد منه الطاقة الهائلة التي تحركه، قال تعالى: (أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (المزمل)، وفيه لا يصمد إلا المخلصون الذين يهرعون إلى ربهم حين ينام الخلق وتخلو الساعات إلا من أنفاس المتعبين والمؤمنين بربهم والمستجيبين له سبحانه حين يتنزل في الثلث الأخير من الليل منادياً أحبابه، كما في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه يَنزِلُ اللهُ إلى سماءِ الدنيا فيقولُ: هل من سائلٍ فأُعطيَه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من مستغفِرٍ فأغفر له؟ حتى يَطْلُعَ الفجرَ» (رواه البخاري، ومسلم)، وهو سلوك المؤمنين الذين وصفهم الله عز وجل: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (السجدة: 16).
وقد وجه الله عز وجل عباده لأهمية قيام الليل وفضله، فقال تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {25} وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (الإنسان)، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ {48} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور)، (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ {15} تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {16} فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة)، (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان: 64).
ورُوي عن عبدالله بن مسعود أنّه قال: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ» (أخرجه البخاري)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ» (شرح النووي على مسلم).
وعن عائشة رضي الله عنها، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ» (رواه البخاري).
فضل قيام الليل
1- تأسٍّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبدالله بن مسعود قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء، قلنا: وما هممت به؟ قال: أن أقعد وأذر رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري، ومسلم).
2- أهل القيام هم أهل الجنة؛ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلَانَ الْكَلَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ».
3- أهل القيام يدخلون في درجة الإحسان؛ فقد وصفهم الله عز وجل قائلاً: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذاريات: 17).
4- أهل القيام يشهد الله لهم سبحانه بتمام الإيمان؛ يقول تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة: 15).
5- من أكثر الأعمال مكفرات للذنوب ومقربة لله عز وجل؛ عن أبي أمامة بلفظ: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات ومنهاة للإثم» (رواه الترمذي).
6- أفضل صلاة بعد الفريضة؛ فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «الصلاة في جوف الليل» (رواه مسلم).
7- شرف المؤمن؛ عن سهل بن سعد قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا محمد، عش ما شئت، فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنك مجزي به»، ثم قال: يا محمد، شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس» (أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
8- لا يكون من الغافلين؛ فعن عبدالله بن عمرو قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتَبْ منَ الغافلينَ، ومن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتِبَ منَ القانتينَ، ومن قرأ بألفِ آيةٍ كُتِبَ منَ المقنطِرينَ» (رواه أبو داود).
9- قيام الله سبب لمحبة الله عز وجل؛ فعن أبي الدرداء عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ثلاثة يحبُّهم الله، ويَضحك إليهم، ويَستبشر بهم..»، ذكَر منهم: «الذي له امرأة حَسناء وفراشٌ حسنٌ، فيقوم من الليل، فيقول الله: يَذَر شَهوته، فيَذكرني ولو شاء رَقَد، والذي إذا كان في سفرٍ وكان معه رَكْبٌ، فسَهِروا ثم هجَعوا، فقام من السَّحر في ضرَّاءَ وسرَّاءَ» (السلسلة الصحيحة؛ للألباني).
وعن ابن مسعود عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «عَجِبَ ربُّنا من رجلٍ ثار عن وِطَائه ولِحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربُّنا تبارك وتعالى: يا ملائكتي، انظُروا إلى عبدي ثارَ من فراشه ووِطَائه من بين أهله وحَبِّه إلى الصلاة، رغبةً فيما عندي، وشفَقةً مما عندي» (حديث حسن في صحيح الترغيب والترهيب).
10- سبب للوقاية من الفتن؛ عن أُمِّ سَلَمَة أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استَيْقَظ ليلةً، فقال: «سبحان الله، ماذا أُنْزِل الليلة من الفتنة؟ ماذا أُنْزِل الليلة من الخزائن؟ مَن يُوقِظ صواحبَ الحُجُرات؟» (رواه البخاري).
الأسباب المعينة على قيام الليل
1- معرفة فضل قيام الليل؛ فعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً» (متفق عليه).
2- استشعار المسلم أنه يلبي نداء الله في الثلث الأخير من الليل؛ فيقوم ليستغفر ويطلب ويسأل إجابة لربه.
3- مقاومة وساوس الشيطان ومكره بالليل والنهار وتثبيطه المسلم عن العمل الجاد، وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل من أمتي يقوم من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقَد، فإذا وضأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الله عز وجل للذين من وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه، ويسألني، ما سألني عبدي فهو له» (رواه أحمد، وابن حبان).
4- النوم مبكراً والتخفيف من طعام العشاء، فعن أبي برزة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان «يستحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها» (رواه البخاري).
5- قراءة سير الصالحين للتأسي بهم، وقد كانت راحة السلف في قيام الليل، يأنسون به ويتلذذون قال عبدالله بن وهب: كل ملذوذ إنما له لذة واحدة، إلا العبادة، فإن لها ثلاث لذات؛ إذا كنت فيها، وإذا تذكّرتها، وإذا أعطيت ثوابها.