كاتب المدونة: صهيب جميل (*)
في عالم متسارع الإيقاع، تبدو العولمة كإعصار يجتاح الحدود ويعيد تشكيل الخرائط، فتتداخل الثقافات وتتسارع الاقتصادات، وتتقارب الشعوب بشكلٍ غير مسبوق، لكنها ليست مجرد عاصفة عابرة، بل قوة عميقة تحمل معها أوجهاً متباينة؛ فتارة هي ظاهرة طبيعية ناتجة عن ثورة الاتصالات وتقنيات النقل، وتارة أخرى حركة موجهة تدفعها قوى اقتصادية وسياسية كبرى لتحقيق مصالح محددة.
من يراقب مشهد العولمة قد يظن أنها تنمو بتلقائية، كما تنمو النباتات في تربة خصبة، وقد تجد هؤلاء يقولون: «لقد صارت الأرض قرية صغيرة!»، يعبّرون بذلك عن واقعٍ أتاحته التكنولوجيا، وجعل من الانتقال السريع للأفكار والبضائع والأفراد أمراً طبيعياً في كل يوم، فالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كأنها جسر يصل بين أطراف الدنيا، وكأن المدن تضاء بمصابيح واحدة تشع ثقافات وأفكاراً من أقصى الشمال إلى الجنوب.
ولكن في المقابل، هناك من يرى أن وراء هذه القرية الصغيرة أيادي تحرك خيوطها وتدير مسرحها، هؤلاء يعتقدون أن العولمة لم تنشأ بصورة بريئة، بل هي حركة موجهة، تخطط لها منظمات مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية؛ بهدف فتح الأسواق وزيادة هيمنة القوى الكبرى، وفقاً لهذه الرؤية، العولمة ليست ريحاً تحمل خيراً للجميع، بل قارب يقوده من بيده المقود.
تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن التجارة الدولية زادت بأكثر من 700% منذ الثمانينيات، في وقتٍ أصبحت فيه الاستثمارات الأجنبية جزءاً أساسياً من اقتصادات الدول النامية، لكن في هذه الطفرة، نجد أن 80% من الاستثمارات تتركز في 20 دولة كبرى؛ ما يجعلنا نتساءل: هل العولمة منصفة للجميع، أم أنها تخدم مصالح قلة على حساب الأغلبية؟
في مجال التقنية، تُظهر بيانات العام الماضي أن أكثر من 60% من منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت الكبرى مملوكة لشركات أمريكية؛ بما يعزز الدور الأمريكي في تشكيل الرأي العام العالمي وإشاعة أسلوب الحياة الغربية، هذه السيطرة ليست مجرد أرقام، بل هي ما يجعل العولمة وسيلة للتأثير الثقافي والاجتماعي بطرق تتجاوز حتى الحدود الاقتصادية.
تخيل شركة مثل «آبل» أو «أمازون» تعبر المحيطات لتحط رحالها في أسواق العالم، قافزة من دولة إلى أخرى، حتى صارت تمتد كالشبكة العنكبوتية، تغزل خيوطها حول العالم لتزيد من أرباحها وأرباح مستثمريها، هذه الشركات تجد في العولمة ميداناً خصباً لتوسيع نفوذها، معتمدة على إنتاج منخفض التكلفة في الدول النامية، ثم بيع منتجاتها في أسواق أكثر ربحاً في العالم المتقدم، وفقاً لتقارير اقتصادية، فإن إيرادات بعض الشركات متعددة الجنسيات تعادل ميزانيات دول بأكملها، وكأنها إمبراطوريات اقتصادية تقود دفة الاقتصاد العالمي.
في أروقة المنظمات الدولية، تجد صفقات تُعقد وسياسات تُفرض على الدول النامية تحت مظلة القروض والمساعدات، فمثلاً، يُشترط على الدول التي تسعى للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي تبني سياسات السوق المفتوحة؛ ما يفتح أبوابها على مصراعيها أمام الشركات الأجنبية، وكأن هذه الدول تجد نفسها في موقف التاجر الفقير، يبيع ما لديه ليبقى في اللعبة، دون أن يدرك أن ما يكسبه على المدى القريب، قد يفقده على المدى البعيد.
العولمة ليست مجرد نقمة، فهي تحمل معها إيجابيات يمكن أن تعزز اقتصادات الدول النامية، ففي عام 2023م، أظهرت تقارير منظمة العمل الدولية أن الاستثمارات الأجنبية قد وفرت فرص عمل في هذه الدول، وساهمت في تحسين دخل الأفراد وتخفيض معدلات الفقر، إضافة إلى ذلك، تساعد هذه الاستثمارات في نقل التكنولوجيا والمعرفة، بما يسهم في تطوير الكفاءات المحلية ودعم الصناعات الوطنية.
ولكن، وكما يقول المثل «النار خير خادم وشر سيد»، فبينما تستفيد الدول النامية من الاستثمار الأجنبي، تواجهها تحديات تجعلها كالتاجر الذي يدخل ميداناً جديداً يكتنفه خطر الخسارة مع الأمل في الربح، فالشركات الأجنبية قد تتغلغل إلى حد الهيمنة، فتستنزف موارد البلاد، أو تفرض شروطاً قد تؤثر على سيادتها، في هذا الصدد، تشير الدراسات إلى أن نحو 50% من الموارد الطبيعية في بعض الدول الأفريقية باتت تُستغل بواسطة شركات أجنبية، وكأن هذه الدول تضحي بسيادتها من أجل حفنة من العملات.
لا يبدو المشهد قاتماً بالكامل، فبعض الدول، كالصين وكوريا الجنوبية، نجحت في استقطاب الاستثمارات الأجنبية دون التضحية بسيادتها الاقتصادية، اتخذت هذه الدول خطوات لحماية صناعاتها المحلية، واشترطت نقل التكنولوجيا كجزء من العقود مع الشركات الأجنبية؛ ما مكنها من الاستفادة من العولمة بشكل مدروس، وها نحن نرى الصين اليوم، تقف كقوة اقتصادية عالمية، تنجح في أن تستفيد من العولمة دون أن تتبع في خطاها الدول الأخرى بصورة عمياء.
العولمة، رغم مزاياها، ليست مفتاحاً سحرياً لتحسين الأوضاع الاقتصادية؛ فهي سيف ذو حدين يتطلب من الدول النامية توخي الحذر واعتماد سياسات تحقق لها الاستفادة دون أن تُعرضها للتبعية، وكأن العولمة مركب في بحر متلاطم الأمواج؛ إما أن يُبحر به القبطان بمهارة فيصل إلى شاطئ الأمان، وإما أن يتقاذفه البحر فيغرقه بعيداً عن شواطئ الاستقلال.
______________________
(*) أستاذ التاريخ والغزو الفكري، رئيس «هيئة ترجمة التراث» بجامعة الرشيد، كراتشي، باكستان.