(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62} الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) (يونس)، من هؤلاء الأولياء الذين لا خوف عليهم، ولا يصيبهم الحزن؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان العادي من هؤلاء الأولياء المقربين من الله عز وجل؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ» (رواه البخاري).
من الحديث السابق ندرك أن ولاية الله ليست هبة لمسلم دون مسلم، وليست حكراً لطائفة دون غيرها، وإنما هي عمل واجتهاد وبذلك جهد وإقبال على الطاعات وأداء الفروض التي فرضها الله عز وجل، ثم إقبال على النوافل وتقرب بها إلى الله الرحمن الرحيم ليشرف العبد بولاية الله عز وجل.
والولي في اللغة تدل على القرب والتوالي، فيقال للمطر بعد المطر: الولي، والولي من الولاء وهو الدنو والتقرب، يقول ابن تيمية: الولاية ضد العداوة وأصل الولاية: المحبة والقرب وأصل العداوة: البغض والبعد، وقد قيل: إن الولي سمي ولياً من موالاته للطاعات؛ أي متابعته لها، والأول أصح(1).
ولله عز وجل ولايتان على خلقه، الولاية العامة وهي لكافة الخلق من منطلق العبودية لله وهي ولايته سبحانه على عباده بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل الكافر وجميع الخلق، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، وذلك في قوله تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) (الأنعام: 62)، وولاية خاصة بأهل الحق من المؤمنين، فهو يتولاهم بعنايته وتوفيقه وهدايته، وذلك في قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا) (البقرة: 257)، فكيف إذن تنال ولاية الله؟ هي لا تنال إلا بالعبودية، ويقول ابن القيم: من أراد السعادة الأبدية فليلازم عتبة العبودية، ولا تنال ولاية الله إلا بطاعة الله(2).
محاربة الله لمن يعادي أولياءه
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ»، وتلك هي أهم مقتضيات ولاية الله عز وجل على عباده المؤمنين، أن يتولى أمرهم على أعدائهم، يقول الإمام أبو القاسم البكري الصّقلي(3): “وإن الله عز وجل لَيَنتَقمُ لأوليائِهِ ممَّن آذاهم، ويعاقب مَن لم ينصرهم، فإياي وإياهم إلا بخير، فإنهم حِمَى الله في أرضه، وخزيُ الله واقع بمَن آذاهم، وإن الله ليغضبُ لغضبهم ويرضى لرضاهم، وإن الله إذا أراد بقومٍ خيرًا وفقهم للسُّنّة وحبب إليهم أولياءه، وإذا أراد بقومٍ شرًّا أخذهم في طريق البدعة وحبب إليهم أعداءه(4).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري»: فمَن اغتاب وليًّا لله أو عالمًا ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلًا، وقد قالوا ضابطها: ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذيه بذلك، وأذى المسلم مُحَرَّمٌ(5).
وقال ابن رجب الحنبلي: فأولياء الله تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، كما أن أعداءه تجب معاداتهم وتحرم موالاتهم، قال تعالى: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة: 1)، وقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة).
قيمة العبادات
«وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه»؛ في هذا الجزء من الحديث ينبه الله عز وجل عباده لقيمة العبادات المفروضة، وأنه لا عمل أحب إلى الله سبحانه منها، فلا يجوز لمسلم أن يكتفي بقيام الليل مثلاً ويترك صلاة الظهر، فالأحب إلى الله أن يتم الفرد عباداته التي فرضها عليه سبحانه.
وقد افترض الله عز وجل عباداته على عباده ليقربهم منه ويوجب لهم الجنة برحمته، ومن أعظمها فريضة الصلاة، فيقول تعالى فيها: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 19)، وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (رواه مسلم)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إذا كان أحدكم يصلي فإنما يناجي ربه وإن ربه بينه وبين القبلة» (رواه البخاري، ومسلم).
ومن الفرائض المطلوبة التي هي الأحب إلى الله حسن تبعل الزوجة لزوجها، والإحسان في العمل، وعدل الحاكم مع المحكومين، وحفظ حقوق الجار ومراعاته، وحسن تربية الأبناء ورعايتهم.
ومن عبادته حسن الظن به سبحانه إذ يقول في الحديث القدسي: «أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَأ ذَكَرْتُهُ في مَلَأ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (رواه البخاري، ومسلم)، ومن عبادته أن يبر المرء أبويه ويصل رحمه.
مكانة النوافل
النوافل هي كلُّ عبادة ليست واجبة على المسلم، بل زائدة على ما فرضه الله تعالى عليه، وهي بهذا المعنى تعمُّ لتشملَ السُّنن المؤكَّدة والمندوبات والتَّطوعات غير المؤقتة؛ لذا قد يعبر عن النَّافلة بلفظ السُّنَّة أو المندوب أو المستحبِ أو التَّطوع، فهي بمعنى واحد لترادفها على المشهور من أقوال أهل العلم(6).
يقول ابن رجب الحنبلي في شرح الحديث السابق: المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة.
قوله: «ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه»؛ يعني أن هذا المحبوب المقرب له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئاً أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه أجابه، فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله عز وجل(7).
وقوله عز وجل: «وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ»، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان من الله وكرامة فليس شيء أحب إليه مما أمامه وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه» (رواه البخاري، ومسلم).
___________________________
(1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) هكذا يكون الصالحون، الشيخ خالد بن عبدالرحمن الحسينان، ص 20.
(3) توفي عام 380هـ.
(4) من كتاب «الدلالة على الله»، ص 31.
(5) فتح الباري (10/ 470).
(6) الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية، ج 41، ص 100.
(7) جامع العلوم والحكم، ص 349.