لابد أن مؤرخ التاريخ المصري المعاصر على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبخاصة منذ عام 1952م يجد الكثير من التحديات، خاصة إذا كان شاهداً على هذا العصر، وعاش القسم الأكبر منه على الأقل منذ عام 1967م كما هي حال جيلي.
لقد كتب النظام الرسمي تاريخ مصر منذ 1952م وفق هوى الحاكم، فصور المعارضين للنظام المهمشين في كل شيء وأحياناً الذين عانوا الحرمان من العمل والوضع الاجتماعي والسجن بل وانتهاك الكرامة والاعتبار، على أنهم أعداء الوطن، وأن ما نالهم من عذاب هو جزاء نقص وطنيتهم؛ وترتب على ذلك أن الذي يكتب التاريخ بمنظور وطني بعيداً عن إملاءات النظام الذي تلبس الوطن، ليس له نصيب، فصارت صفحات التاريخ نشرات أملتها إدارات الشؤون المعنوية للقوات المسلحة والشرطة.
أما تاريخ حقوق الإنسان، فقد كتبته الأجهزة الحكومية وإدارات حقوق الإنسان في الحكومة، وأما النكسات الكبرى التي تعانيها مصر وتراجعها عالمياً على جميع المؤشرات الدولية فقد قدمها الإعلام على أنها نجاحات كبرى، كما صور أنَّات المحرومين والمقهورين على أنها بطر بالنعمة، وحتى عندما ضج الشعب وثار في وجه القهر والظلم وجد من كتب بأنه من فعل قلة مأجورة ممولة من بعض الدول الحاقدة على طريقة المصريين المثلى، وهو نفس الخطاب الفرعوني الذي واجه دعوة موسى عليه السلام في مصر عندما استعدى فرعون الشعب عليه، خاصة أن موسى يدعو إلى الله بينما كان فرعون يدعي الألوهية، وقال لشعبه: هل لكم من إله غيري؟ لا أريكم إلا ما أرى وأنه يهديهم سبل الرشاد، والخطورة هنا هي أن موسى ينزع الشرعية عن ملك مصر؛ لأنه يحكم مصر بصك الألوهية، ولا يزال ظل هذا الوضع مستمراً في مصر حتى الآن.
وإذا تعمقنا قليلاً في إشكالية كتابة التاريخ المعاصر الذي لا نطمئن إليه ولا يثق شبابنا فيه، فالذي يكتبه هو كتبة المقررات الدراسية، وهم كتبة وليسوا مؤرخين أو مفكرين أو كتَّاباً، كما يكتبه الإعلام التابع تبعية مطلقة للحاكم، ومن لا يعجبه هذه الصفحات تولى الأمن ترويضه كما تم عزله عن المجتمع والتضييق عليه أو حتى اعتقاله وسجنه، أو في أحسن الفروض إغلاق أبواب الإعلام جميعاً أمامه، فكيف يعرف الشباب الذي لم يعايش هذه الفترة تاريخ وطنه وما مصادر كتابة صفحات هذا التاريخ.
إن شباب هذه المرحلة الذي عاصر الأحداث يقرأ صفحات لا علاقة لها بالواقع الذي يعيشه، لا مفر من أن نوضح الحاجة الماسة إلى تنوع الكتابات وإجراء مناقشات حرة حول رصد الأحداث، ثم الحرية في تفسيرها ومقاربتها.
إن تاريخ مصر خلال العقود الستة الأخيرة والذي تكتبه أقلام لها انتماءات حزبية أو أيديولوجية ومريضة بالرغبة في تنشئة الشباب وفق رؤيتها وتصفية حساباتها مع خصومها جعلت تاريخ هذه الفترة شديد الاضطراب.
ولكي نسهل عملية تصوير الإشكالية، يمكن أن ننظر إلى هذه العقود الستة وفق خمسة معايير؛ أولها المحطات الرئيسة الأربعة المؤثرة في مصر خلالها، وثانيها وفق قطاعات معينة من الأحداث، وثالثها من منظور تتابع النظم الهشة التي حفلت بها هذه العقود.
أما المعيار الرابع فهو وفق العوامل الحاكمة لتطور الأحداث فيها؛ مثل أثر “إسرائيل” على تحول النظام المدني في مصر إلى نظام عسكري، وتراجع المكون المدني، وأثر “إسرائيل” على شقاء المجتمع المصري، ونظرة النظم المتعاقبة إلى العامل “الإسرائيلي”، وأثر العداء أو الاقتراب منها على أحوال مصر.
من ناحية خامسة، يمكن تقسيم الفترة الممتدة من عام 1952م حتى الآن إلى الجمهورية الأولى حيث قطعتها ثورة 25 يناير ثم حكم الإخوان، وأخيراً استئناف الجمهورية الأولى بعد تجاوز مرحلة الإخوان، فالتاريخ المعاصر وفق هذه النظرية مرحلة واحدة قطعتها أحداث الثورة والانتخاب وحكم الإخوان لمدة عامين ونصف العام، أو بعبارة أدق أنه منذ 1952 حتى 11 فبراير 2011م حكم الرئيس وهو رئيس للجيش والمجلس العسكري والدولة، وفي 11 فبراير صار رئيس المجلس العسكري هو رئيس الدولة فأسفرت الانتخابات الرئاسية عام 2012م عن فصل رئيس الدولة عن رئاسة الجيش ولو من الناحية النظرية، وإن كان المجلس العسكري هو الحاكم الفعلي، ثم استرد الحكم في 3 يوليو 2013م بصرف النظر عن الجدل السياسي والتاريخي حول 30 يونيو وطبيعتها، والثالث من يوليو، وهو يختلف عن الثالث والعشرين من يوليو 1952م، كما يتماثل معه في جوانب، هما يتشابهان في أن الجيش هو الذي أنهى حكم الملك وحكم الإخوان، فيما قال كلاهما أنها ثورة، لكن أنصار يوليو 2013م قالوا: إنها ثورة شعبية استدعت تدخل الجيش، أو ثورة شعبية سببها عجز الحكم المدني وإفلاس السياسيين فتدخل الجيش، وهو نفس ما قيل عام 1952م، لكن عبدالناصر لم يدع مطلقاً أن حركة الجيش كانت شعبية، فالشعبية باركت الحركة، بينما عام 2013م بارك الجيش الحركة الشعبية، ولكن في الحالين تولى الجيش السلطة حتى لو تم في انتخابات وبملابس مدنية.
لا شك أن تقييم وتوصيف عامي 1952، 1953م الإصلاح الزراعي، عام 1954م الإخوان ومحمد نجيب، عام 1956م العدوان الثلاثي وتأميم القناة ، عام 1958م الوحدة مع سورية، عام 1961م التأميم، وعام 1962م اليمن، وعام 1967م، ومجمل العصر الناصري عليه خلاف بين الكتَّاب والمؤرخين، انتهت الفترة الناصرية بما لها وما عليها إلى فرق متناحرة؛ الفرقة الأولى المؤيدة للحكم المدني، وشعبة فيها مؤيدة للملكية لا الجمهورية، الفرقة الثانية هم الناصريون الذين تعلقوا بسياسات الوحدة العربية والاعتزاز الوطني والسد العالي، ومعاداة “إسرائيل” والعدالة الاجتماعية، بعضهم لا يقبل تقييم العصر الناصري، ويرى أن عبدالناصر كان نبياً هزمته المؤامرة في الداخل والخارج، ولا يلتفتون إلى المآخذ الخطيرة في مجال الحريات وحقوق الإنسان والتنكيل بالخصوم ثم بالهزيمة الشاملة عام 1967م مرورا باليمن.
أما الفرقة الثالثة فهي ترى أن عبدالناصر أدى واجبه برؤى قاصرة حسب تكوينه وثقافته، وأنه استهدف أغراضاً نبيلة لكنه طبقها بعقلية محدودة، ثم كان اعتصامه بعسكرة الدولة سبباً في قصور إدارتها وتحجيم مجتمعها، وانتهى الأمر بأنه أضر بمصر ضرراً بليغاً أودى شعوره العميق به بحياته.
الفرقة الرابعة هي التيارات الإسلامية خاصة الإخوان التي كانت شديدة النقد لقسوة عبدالناصر، ولذلك فرح هذا التيار في هزيمة جيشه ونظامه، وهزيمة التيار القومي البعيد عن الدين، ولذلك وجدوا في أنور السادات ضالتهم لأنه سار على عكس طريق عبدالناصر تماماً واحتضن التيار الإسلامي باعتباره رئيس دولة العلم والإيمان.
انتهى العصر بثأر بين الإخوان والناصريين، ثم انتهى عصر السادات بثأر بين أنصار الاستسلام لأمريكا و”إسرائيل” والنظام الرأسمالي الذي فتح الباب لنهب ثروات مصر وسمح بنشأة طبقة من اللصوص حتى تحت مسمى رجال الأعمال، وبين من رأى في السادات رجلاً وطنياً واقعياً مد العمران إلى الصحراء وأعاد سيناء وأعاد الملاحة إلى القناة وأعاد الاعتبار للجيش المصري ضد “إسرائيل” قبل أن يعقد معها سلاماً اختلف المؤرخون حوله.
انتهى العصر الساداتي بمأساة اغتياله في ذكرى الانتصار في أكتوبر، فصار الإرث الساداتي السلبي والإيجابي مضافاً إلى الإرث الناصري بكل سوءاته وإيجابياته أمام نظام مبارك الذي توسع في الفساد والقهر والتضييق على الحريات والتزوير وتدمير المؤسسات، لكن حكمه استطال لثلاثين عاماً؛ أي ما يفوق مدة عبدالناصر والسادات معاً وسمح بثورة شعبية عارمة عام 2011م.
ومن المفيد أن يتحاور الكتَّاب والمعاصرون والمؤرخون حول الأحداث العاصفة منذ 25 يناير، في هذا المقام من المفيد أن يكون لدى المؤرخ زاد سياسي وقانوني يعينه على النظر المستقيم إلى الأحداث.
فالكل رأى 25 يناير ثورة كاملة بقطع النظر عما أحدثه بها غيرها، ولم يتحفظ عليها إلا نظام مبارك الذي قامت الثورة عليه، هذه الفترة تطرح أسئلة تحتاج إلى إجابات تحليلية متنوعة، ولكن المشكلة أنه بغير الحرية والمعلومات لا يمكن للمؤرخ أن يكتب تاريخاً يعتد به، فقد أدى نقص الحرية والمعلومات إلى الطعن في مصداقية التاريخ المصري والعربي بالذات المعاصر، بل التاريخ الحديث كله إذا كانت الأسرة الحاكمة في أي بلد عربي تغطي القرنين الماضيين كما هي الحال في دول الخليج والأردن والمغرب.
أما تغير النظم، فإن المشكلة هي أن كل نظام يكون على مقاس الحاكم، ويزول مع الحاكم، ويبدأ بوصول الحاكم إلى السلطة تاريخ الدولة، لكل هذه الأسباب يجب إعادة تاريخ مصر المعاصرة على الأقل بعد التجرد من الانحيازات، وبكل حرية، وبعد الاطلاع على مختلف الآراء والاجتهادات التي يجب أن يتاح لها فرص الظهور والنشر، وهذه الأسباب هي التي تجرد التأريخ المصري من المصداقية، ويتجه الباحثون إلى الكتابات الأجنبية أو التاريخ الذي ترسمه البرقيات الدبلوماسية للدول الكبرى في مصر، فكيف نعيد الاعتبار والمصداقية للمدرسة التاريخية المصرية وللتاريخ المصري عند شبابنا المعاصر والأجيال القادمة، وحتى لا ينزوي الشرفاء في زوايا النسيان في تاريخ السلطة.