في الثّاني عشر من شهر فبراير تمرُّ بنا الذّكرى السابعة والستون لاغتيال الإمام الشّهيد حسن البنا، رحمه الله تعالى، وأسكنه منازل الصّدّيقين والشّهداء، وحين نستذكر هذه المناسبة فإنّنا نهدف إلى التأكيد على طبيعة الصّراع بين المصلحين والمفسدين، وعشّاق الحرّية والمستعمرين، وحماة الفضيلة والوالغين في الرذيلة.
مجدد القرن العشرين
فلم يكن حسن البنّا شخصاً عادياً، يحيا كما يحيا السّواد الأعظم من النّاس، كما لم يكن موته ميتة عاديّة، وإنّما كان رجلاً من نوادر الرّجال، الذين يمنّ الله بهم على عباده في كلّ قرن، ليجدّد لهم أمر دينهم، وينتشلهم من وهدة الضّعف والتخلّف والتبعيّة إلى أفق القوّة والنّهضة والسّيادة، فقد أجمع كلّ الّذين تكلّموا عن حسن البنّا أنّه مجدّد القرن العشرين، ومنهم من قال: إنّه مجدّد القرنين الأخيرين، وأحسبه ممن قال الله تعالى فيهم: (ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ {13} وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ {14}) (الواقعة)، فقد استوعب تجربة من سبقوه، وتميّز عليهم ببناء جيل فريد يذكّرنا بالجيل الأوّل، وتعقد عليه الآمال ليبعث مجد الأمّة من جديد، لتأخذ دورها الحضاريّ اللائق بها، فقد نشأ حسن البنّا في مرحلة من أصعب المراحل وأخطرها، حيث انفرط عقد الأمّة، وتمزّقت شرّ ممزّق، وجثم المستعمرون على صدرها، وانطلقت جحافل المبشّرين، والمستشرقين والمستغربين تعيث في الأرض فساداً، وتخرج الأمّة من عقيدتها وحضارتها، فكان يتصدّى لكلّ هذه القوى، من أنظمة الحكم الفاسدة، إلى دعاة التغريب والانسلاخ من عقيدة الأمّة وهويّتها، إلى المستعمرين، مدفوعاً في ذلك بمزايا شخصيّة وثقافيّة فريدة، وقدرة على مخاطبة جميع شرائح المجتمع، وكسب قلوبها، فكان كلّ ذلك السبب الرئيس لاغتيال حسن البنّا، وقديما قيل: والسّيل حرب للمكان العالي، وقد تنبّأ الذين عرفوا حسن البنّا بقرب رحيله، يقول المستشرق روبير جاكسون: “وإنّني على يقين بأنّ حسن البنّا رجل لا ضريب له في هذا العصر، وأنه قد مرّ في تاريخ مصر مرور الطّيف العابر الذي لا يتكرّر، لم يحن رأسه، ولم يتراجع، ولم يتردّد أمام المثبّطات ولا المهدّدات، كان لابّد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التّاريخ، وحوّل مجرى الطّريق شهيداً كما مات عمر وعلي والحسين، فقد كان الرجل يقتفي أثرهم”.
إنّ المشروع الذي حمله الإمام البنّا جلب عليه سخط الكثيرين، فتصدّيه للفساد جلب عليه سخط القصر الملكيّ، وانتقاده للأحزاب السياسيّة لنفعيّتها وفسادها وتبعيّتها للأجنبيّ جلب له عداوة الأحزاب، وفهمه الواعي لأهداف الاستعمار، ومجابهة رجاله للاحتلال البريطانيّ ملأ قلب بريطانيا حقداً عليه، وبطولات أتباعه في الجهاد في فلسطين وحّد دول الاستكبار على العمل على التخلّص منه، وإنّ استعلاءه على شهوة المرأة والمال والجاه حمل خصومه على اليأس من التأثير عليه، وحرفه عن منهجه، لكلّ ذلك كان لا بدّ من مؤامرة نسجت خيوطها الدّول الكبرى، والدّيوان الملكيّ، والحزبيون الفاسدون.
فقد اجتمع قناصل إنجلترا وفرنسا وأمريكا في قرية فايد، وكلّفوا السّفير البريطانيّ بأن يطلب من النّقراشي، رئيس وزراء مصر، يومها إصدار قرار بحلّ جماعة الإخوان المسلمين، ولم تتأخر الاستجابة، فتمّ حلّ الجماعة في 8 ديسمبر 1948م.
كما أسهمت بعض التّصرّفات غير المسؤولة والّتي استنكرها الإمام البنّا بقتل النّقراشي، والقاضي الخازندار في توفير الأجواء المناسبة للانتقام، فتعالت صيحات بعض السّعديّين منادية بالانتقام قبل مرور أربعين يوماً على اغتيال النقراشي، وقد نصح بعض إخوان البنا الإمام بأن يغادر القاهرة، أو أن يختفي، ولكنّه ردّ عليهم بلسان الواثق بربّه، المطمئن إلى قضائه، متمثلاً قول الله عزّ وجلّ: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء:78) وبقول الشّاعر:
أيّ يوميّ من الموت أفر يوم لا قدّر أم يوم قدر يوم لا قدّر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
ولكن خيوط المؤامرة كانت تنسج بمباركة القصر الملكيّ، وبمشاركة وكيل أوّل وزارة الدّاخلية، ورئيس شعبة البحث الجنائيّ، ومدير مكتب رئيس الوزراء، وكان التّنفيذ في تمام السّاعة الثامنة وثلاثين دقيقة من مساء يوم 12 فبراير 1949، أمام جمعيّة الشّبان المسلمين، برصاصات غادرة من مسافة قريبة، وفرّ الجناة بعدها، ولم تمنعه الرصاصات من الجري وراء الجناة، ومحاولة استخدام الهاتف، إلى أن نقل إلى المستشفى.
والمؤشّرات تؤكّد أنّه كان ممكناً إنقاذ حياته، لولا أنّ القرار كان يقضي بالإجهاز على حياته، ولا أدلّ على ذلك من أنّ مذكّرة وصلت الملك في تمام السّاعة التّاسعة مساء حينما كان يلعب القمار في نادي السيّارات الملكيّ، كما وصلته أخرى بينما كان يواصل المقامرة في السّاعة السّادسة صباحاً فكان ردّه ابتسامة صفراء.
لقد كان اغتيال حسن البنّا بينما كان أتباعه في السّجون، وشيّعته المصفّحات التي حالت دون السّماح بتشييع الجنازة، أو التّعزية بالشّهيد، فلم يشيّعه إلّا أبوه الشّيخ عبدالرحمن، وابنه سيف الإسلام، والقبطيّ النبيل مكرم عبيد، وبضع نسوة.
اغتيال مشروع نهضوي
إنّ اغتيال حسن البنّا ليس مجرّد اغتيال زعيم، وإن كان بوزن حسن البنّا، ولكنّه محاولة لاغتيال مشروع نهضويّ، يستهدف تحقيق الاستقلال النّاجز، بكلّ أبعاده السياسيّة والاقتصادية والثقافيّة والاجتماعية، كما يستهدف تحرير فلسطين من استعمار عنصريّ توسعيّ إحلاليّ بغيض، وتوحيد الأمّة عبر خطّة متدرّجة ومستأنية، لتستعيد دورها الحضاريّ بين الأمم.
والتّاريخ يعيد نفسه، فمن اغتالوا حسن البنّا هم الذين يسعون جادّين لاغتيال ثورة “الربيع العربيّ”، والمؤامرة هي المؤامرة، والمتآمرون هم المتآمرون: المستعمرون، وقوى الثّورة المضادّة، وأنظمة الحكم الفاسدة، ولكنّ هذا الكيد مهما عظم خطره، والمتآمرين مهما تعدّدت أسماؤهم، وعظمت قوّتهم، لن يفلحوا في قهر إرادة الأمّة التي تمتلك الرّصيد الحضاريّ والقيميّ والبشريّ والماديّ ما يمكّنها من تحقيق أهدافها.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً {51}) (الإسراء).