تقوم فلسفة العمل الإغاثي لدى الرحمة العالمية على أساس واضح وفق مستويات ثلاثة، وتبدأ أولاً في تقديم الإغاثة العاجلة والتي تستلزم السرعة في الوصول وتوزيع المؤن المراد تسليمها للمتضررين والنازحين بسبب الحاجة الملحّة، وتتنوع تلك المساعدات وتختلف باختلاف الأماكن التي تحصل فيها الأزمة والظروف المحيطة بها، وهذا يحتاج لتواجد ميداني سريع على أرض الواقع، وهذا ما نتميز به من تواجد حقيقي في أكثر من 42 دولة حول العالم بالإضافة للتعاون الكبير بين العديد من المؤسسات والمنظمات الإنسانية بهدف القدرة على إمكانية رصد الواقع بمصداقية عالية، حيث ينعكس هذا على نوعية المشاريع المقدمة.
بعد انتهاء هذه المرحلة نتجهز للانتقال للمستوى الثاني من الإغاثة والتي تهدف بشكل أساسي لعودة النازحين لموطنهم، ويتطلب ذلك جهداً كبيراً وعملاً متواصلاً؛ لأن المشاعر التي كانت تحرك الناس وتحفزهم للتبرع قد انطفأت جذوتها، وكذلك فإن نوعية المشاريع في هذه المرحلة أكثر تكلفة كبناء المنازل أو حفر الآبار الارتوازية وتوزيع البذور والماشية وغيرها من الأفكار التي تدفع النازحين للتفكير بشكل جدي للعودة ومساعدتهم على ذلك.
لتأتي المرحلة الثالثة والأخيرة والأصعب – من وجهة نظري – لما تحمله من تحديات كبيرة من الناحية المالية والإدارية وحاجتها للكوادر البشرية القادرة على العمل في أكثر الأماكن صعوبة في العالم، وهي مرحلة تنمية المجتمعات الفقيرة وتأهيلها للاكتفاء الذاتي، وهذا ما سأركز عليه في الأسطر القادمة.
تحدي الاستمرارية
لم يعد العمل الإنساني هو ذاك العمل الذي ينتهج فكرة العطايا المجانية؛ وبالتالي تقوم الجهة الراعية بدفع جميع التكاليف اللازمة لتسيير الأعمال والخدمات المقدمة دون مقابل، وهذا الأمر يهدد استمرارية المشروع سواء كان بشكله التعليمي أو الطبي، مما يستدعي التفكير ملياً بهذه المسؤولية الملقاة على عاتق العاملين في العمل الإنساني والخيري في كيفية توفير سبل الاستمرارية للمشاريع التي يتم تنفيذها خيرياً في الدول النائية والفقيرة، في ظل المخاطر المحدقة بهذا العمل، ومن واقع التجربة التي عايشناها في الرحمة العالمية كمؤسسة خيرية كويتية لها أكثر من 32 عاماً في العمل الإنساني، فإن البدائل التي نستعين بها لتحقيق غاية المشاريع التنموية في الاستمرارية والعطاء تتمثل في:
المعادلة الصفرية: نهتم في عملنا التنموي والذي يستهدف الإنسان في تكوين مهاراته وقدراته ليصل للحياة الكريمة التي يتمناها، وخاصة في المشاريع التي لها ميزانيات تشغيلية للوصول لحد الاكتفاء الذاتي مما يحقق المعادلة الصفرية كمرحلة أولى على أن تصل لتغطية مصاريفها وصيانة مرافقها وتطوير خدماتها بما يحقق أهدافها.
فلسفة الخدمة: الخدمات التي تقدم للمستفيدين من العمل الخيري والإنساني في جانبه التنموي يرتكز لدى الرحمة العالمية على أن كل خدمة تقدم للمحتاج (بشكل مجاني أو برسوم منخفضة)، فهي كذلك تقدم للغني (ولكن برسوم كاملة)، وهذا يستدعي أن تكون الخدمة المقدمة ذات جودة عالية حتى نستطيع تسويقها لدى جمهور المستفيدين من الفئتين، وهو هدف يتحقق من وراءه غاية أساسية في استمرارية المشروع لوجود العائد بجانب الغاية الاجتماعية في تحقيق قيمة التكافل بين أبناء المجتمع؛ مما يخلق نوعاً من الإحساس بالانتماء للمؤسسة الخيرية.
الخدمات المتكاملة: كنت قد اشتركت مع مجموعة من الإخوة في عمل دراسة ميدانية حول المراكز التي تقدم خدمة الرعاية للأيتام والفقراء في أفريقيا لقياس الخدمة المقدمة وتكاملها وأثر ذلك على رعاية اليتيم.
زرت حينها ثلاث دول؛ هي: كينيا وأوغندا وجيبوتي، ومررت على مجموعة متنوعة من المؤسسات الإنسانية، وتوصلنا لحقيقة واستنتاج مهم ومفيد للعاملين في العمل الإنساني، أنه كلما كانت الخدمات المقدمة متكاملة؛ كان الأثر في شخصية اليتيم والفقير أفضل، وطبعاً هناك مزايا عديدة من الناحية الإدارية والمالية.
نماذج رائدة
جيبوتي: لدينا فيها تجارب رائدة، ومن أهم نماذج العمل “المدرسة الثانوية الصناعية”، والتي تعتبر من أهم الوحدات التعليمية في “مجمع الرحمة التنموي”, ولها مساهمة كبيرة في تحقيق التنمية الصناعية للمجتمع عن طريق إمداده باحتياجاته من الفنيين والعمالة الماهرة, وقد تم إنشاؤها بعد أن تمت دراسة احتياجات السوق، ووجود حالة من النمو الاقتصادي في المجال التجاري والعقاري, وزيادة الاستثمارات؛ مما زاد الطلب على هذه التخصصات، وللعلم بعض خريجي المجمع يلتحقون بكليات الهندسة والمعاهد والكليات التقنية العليا، وشغل بعضهم وظائف تناسب تخصصاتهم بالمجمع ومؤسسات الدولة, والبقية خرجوا إلى سوق العمل في جيبوتي.
مستشفى الرحمة في جيبوتي: يعتبر من التجارب الرائدة للرحمة العالمية، تجربة مستشفى الرحمة في جيبوتي، والتي تقع ضمن مجمع ضخم قامت بتأسيسه الرحمة العالمية، وتخدم المستشفى مواطني جيبوتي والدول القريبة منها في القرن الأفريقي، بالإضافة إلى أيتام مجمع الرحمة، وتتميز بأنها المستشفى الوحيد بالمنطقة المتخصصة في أمراض الأنف والأذن والحنجرة وأمراض العيون، بجانب 18 تخصصاً آخر، ويستقبل المستشفى 75 مريضًا يوميًا بالعيادة الخارجية، كما يتم إجراء 30 عملية جراحية مختلفة أسبوعيًا؛ حيث يوجد بالمستشفى 4 عيادات خارجية، وتقدم خدماتها على مدار اليوم (24 ساعة).
ختاماً نؤكد أن العمل الخيري لم يعد على مفهومه التقليدي في التبرع والصرف، بل أصبح صناعة بما تعنيه الكلمة من دلالات المؤسسية والهيكل والاستثمار والعمل، ومع اتساع حجم الرقعة التي يجب على مؤسسات العمل الخيري والإنساني تغطيتها وقلة الموارد ومحدوديتها، فإننا مطالبون بالتفكير الإبداعي والعمل على توفير سبل تنموية تستهدف الإنسان المستحق حتى يصبح قادراً على الاعتماد على ذاته، بل ويصبح جزءاً من الداعمين لمؤسسات الخير وليس عبئاً عليها.