يذكر د. عبدالوهاب المسيري أنه قابل العالم الأمريكي فرانز أوبنهايمر، رئيس الفريق الذي اكتشف معادلات القنبلة الذرية، وعندما سأله: ما أول تصرف قمت به بعد لحظة الاكتشاف العلمي؟ رد العالم الأمريكي دون أدنى تفكير: لقد تقيأت.
ولعمري إن هذا التصرف من ذلك العالم معبر عن حالة التطور العلمي المنبت عن سلطان الفطرة والدين والأخلاق في عصرنا الحاضر، لقد كان من الطبيعي أن يصرخ المكتشف لحظة الاكتشاف فرحاً بما حقق، لكن فطرته تحركت فشعر بالغثيان، لعلمه أنه كان ينجز مشروعاً ضد فطرته، إذ كان يواصل كلال الليل بالنهار من أجل اكتشاف أفضل طريقة لقتل أكثر كم ممكن من البشر، هذا التصرف من ذلك العالم يلخص حالة الحضارة الغربية الحديثة، فرغم أنها منتصرة وقوية، فإن العالم اليوم الذي انطبع بهذه الحضارة تندر فيه السعادة، وتكثر فيه جيوش المنتحرين الساخطين.
كان من المفترض أن يكون الإنسان المعاصر أسعد إنسان عرفته الأرض، نتيجة الاكتشافات العظيمة التي حققها، والرفاهية التي تعمه فيها، لكن الواقع يقول: إنه إنسان بائس وتعيس، فمعدلات الانتحار في ارتفاع، وأمزجة الناس أسوأ، وسرائرهم أخبث من ذي قبل، والسبب هو أن التقدم الذي حصل في معظمه تم في غيبة من الروح وابتعاد عن القيم والدين.
ما من أحد يشكك في أن اليابان اليوم تتقدم الصفوف العالمية في الازدهار الاقتصادي، لكنها أيضاً تتقدمه أيضاً من حيث عدد المنتحرين فيها، إذ يبلغ عدد المنتحرين اليابانيين سنوياً 30 ألفاً؛ مما جعل الحكومة تفكر في سياسة جديدة تعيد الناس إلى دياناتهم القديمة، حتى تكفكف بذلك من غلواء المادية الطاحنة حتى لا يتناقص عدد السكان.
وأحسن الدول الغربية نظماً اجتماعية هي الدول الإسكندنافية وفيها أيضاً أعلى معدلات الانتحار، وإذا ما نظرنا إلى أحاديث المفكرين والفلاسفة في لحظة انتصار الحضارة، نجدهم يتأوهون من ويلات القادم، فقد بشروا في أدبيات ما بعد الحداثة بالعدمية واللاأخلاقية وبعودة الإنسان إلى الغاب، بشروا بكل هذه النظريات العبثية والعدمية التي تملأ الإنسان رعباً وسخطاً، رغم أن حضارتهم كانت في لحظة انتصار.
لقد قتل في القرن العشرين – وهو قرن ازدهار الحضارة الغربية – من البشر ما لم يقتل قط على ظهر البسيطة، واكتشف فيه من وسائل القتل السريع ما لم يكتشف قط طيلة عمر البشرية المديد، لكأن العالم الغربي وضع كلمات ميكيافيلي دستوراً حين قال: “إن الحرب التي تقوي الأمة هي حرب خيرة”.
فالفكرة المركزية في الحضارة المادية هي أن الخير إنما هو المصلحة، فأي عمل تجلب من خلاله الرفاهية لقومك فهو الخير حتى ولو كان محو ملايين البشر من الوجود.. سواء كانوا هنوداً أو فلسطينيين أو سوريين أو عراقيين.
المصدر: رابطة العلماء السوريين.