الإسلام دين الشمولية والعالمية؛ ولذا تجد له رأياً وحكماً في كل منحى من مناحي الحياة المختلفة كما قال تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام:38)، وتطبيقاً لهذا وإعمالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، نلقي الضوء فيما يلي على الملف الليبي وما آل إليه في ظل التفاعل العالمي والإقليمي المؤثر في مجريات الأحداث هناك.
في مساء يوم 13 فبراير الماضي التقى – بوساطة مصرية – فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي المقترح من البعثة الأممية، بخليفة حفتر، قائد الجيش الليبي المعيّن من مجلس النواب المنعقد بطبرق والمنحل بحكم المحكمة الدستورية والمنتهي الولاية بحسب الإعلان الدستوري، وشارك في هذا اللقاء عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب المنحل، حيث عرض السراج مقترحاً لتعديل الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015م.
اللقاء جاء بعد رفض متواصل من خليفة حفتر لفكرة لقاء السراج الذي يتهمه بالعمالة للغرب، وبأنه ألعوبة في يد الإخوان والمقاتلة، حسب تعبيره، ورغم أن مقترح السراج كان يتضمن تنصيب حفتر رئيساً لمجلس عسكري يدير المؤسسة العسكرية الليبية، ويعرض تشكيل حكومة مصغرة برئاسة شخصية أخرى غير فائز السراج، فإن حفتر قابل هذا المقترح بالرفض التام، وانتهى لقاؤهما بالفشل.
في اليوم التالي حاولت الحكومة المصرية الضغط على حفتر للقاء مرة أخرى بالسراج، إلا أنه رفض لقاءه، وتشبث بمطالبه التي تتمثل في تغيير تشكيلة المجلس الرئاسي برمته.
هذه الماراثونات الدبلوماسية هي ما يعطي الجنرال حفتر أهمية سياسية ونفوذاً دولياً لا يتناسب وحجمه المحلي في ليبيا، فما يسيطر عليه حفتر في ليبيا ليس بأكثر مما يسيطر عليه خصومه، بل إن قوته العسكرية لا ترقى إلى مستوى قوة خصومه الذين شهدت لهم حرب سرت الأخيرة بالقوة العسكرية والخبرة والقدرة على حسم الصراعات القتالية بشكل يتفوق كثيراً على قوات حفتر رغم الدعم الإقليمي والدولي له.
نجاحات باهرة للمقاومة
إن محاولة إيهام العالم بأن حفتر هو من يمتلك مفاتيح الأزمة الليبية هي مسرحية يشترك فيها الجانب المصري والسراج أيضاً، فالإنجازات التي حققها حفتر على الأرض لا ترقى إلى المستوى الذي يعطيه القدرة على أن يكون لاعباً رئيساً في المشهد الليبي، ولا يمكّنه بالتفرد بالسيطرة على المؤسسة العسكرية المتهالكة في ليبيا؛ وهو ما جعل مصر وأطرافاً إقليمية أخرى تحاول استعمال دبلوماسيتها وخبرتها السياسية في إظهار حفتر بمظهر رجل ليبيا القوي الذي يخشاه الكل ويسعون لمقابلته واسترضائه.
هذه المسرحية التي تسخر منها الأحداث الواقعية في ليبيا خاصة الأخيرة منها، هي آخر المحاولات لإنقاذ حفتر على الأرض، فتقدم سرايا الدفاع عن بنغازي من منطقة الجفرة في وسط البلاد نحو الشرق الليبي تكلل بنجاحات باهرة، خاصة بعد إسقاط مروحية تابعة لقوات حفتر ومقتل 4 طيارين على متنها، اثنان منهم برتبة عقيد، وكذلك سيطرة قوات السرايا على مدينة زلة النفطية، وحقل المبروك النفطي، وهزيمة كبيرة لحقت بقوات مرتزقة العدل والمساواة السودانية التي يستعين بها حفتر لبسط سيطرته ونفوذه على الهلال النفطي.
حفتر يمثل صمام أمان لبعض الدول الغربية لضمان عدم تواجد الإسلاميين في الحكم في ليبيا، ولذلك يحاول الغرب إيجاد صيغة اتفاق سياسي يكون لحفتر دور مهم فيها؛ ليكون جاهزاً في أي وقت للتدخل وقلب نظام أي حكم ربما تنتجه أي انتخابات قد تأتي بالإسلاميين إلى الحكم كما حدث في مصر.
لكن المعطيات على الأرض وميزان القوى في الواقع لا يعطي أي أفضلية لحفتر لضمان موقع مؤثر في المشهد السياسي الليبي، فالقوة الفعلية للثوار في الغرب والجنوب ترفض رفضاً باتاً وجوده في المشهد، وقد أصدرت بيانات متتالية تؤكد فيها أنها لن ترضى بوجوده أو وجود أي شخصية عسكرية جدلية على رأس المؤسسة العسكرية الليبية.
الحرس الوطني
حكومة الوفاق المنبثقة عن الاتفاق السياسي تحظى بدعم مجموعاتٍ من ثوار المنطقة الغربية، وهذا التأييد هو ما مكّن السراج ورفاقه في المجلس الرئاسي من دخول طرابلس أواخر مارس 2016م، لكن هذه المجموعات الآن تتساءل عن صحة هذا الخيار خاصة بعد الهرولة التي يُبديها السراج تجاه حفتر؛ وهو ما دعا الكثيرين منهم إلى مراجعة تأييدهم للسراج ومجلسه الرئاسي، وهو أيضاً ما أفسح المجال لقوات كبيرة من الثوار الذين شاركوا في عملية «البنيان المرصوص» لتشكيل مؤسسة شبه عسكرية تحت مسمى «الحرس الوطني»، دخلت قوات كبيرة منها العاصمة طرابلس مؤخراً، بينما أعلن رئيس الحرس الوطني العميد محمود الزقل أن هذا التشكيل ليس موجهاً ضد طرف سياسي معين، وهو ينأى بنفسه عن التجاذبات السياسية، لكنه بالمقابل أوضح أنه تشكيل لبسط الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب ويرفض الانقلابات العسكرية في إشارة واضحة للجنرال حفتر.
الصراع في ليبيا
الصراع في ليبيا صراع سياسي في أغلب محطاته، لكن الحسم سيكون عسكرياً بامتياز، فالتعنت الذي يُبديه حفتر ورفضه لكل المقترحات السابقة لن يترك لخصومه خياراً آخر إلا المواجهة العسكرية، خاصة أنه يُصدّر خطاباً إعلامياً هجومياً يتوعد فيه بتحرير العاصمة طرابلس والمناطق الغربية، رغم عدم قدرته على ذلك، وعدم وجود تأييد حقيقي له في المنطقة الغربية.
يتفاوت موقف الدول الغربية تجاه حفتر، ففرنسا تقدم الدعم له في الشرق ليتم غض الطرف عما تفعله في الجنوب؛ حيث تقيم تحالفات مع التبو والطوارق لمحاولة استرجاع نفوذها في الجنوب الليبي؛ حيث يزخر الجنوب بثروات معدنية كبيرة.
أما إيطاليا فهي تفضل التعامل مع قيادات سياسية في الغرب الليبي، وتدعم بشكل خاص قيادات من مدينة مصراتة وعلى رأسهم أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسي، وتنظر إلى حفتر على أنه حليف لمصر التي لا تتمتع بعلاقات طيبة مع إيطاليا.
أما بريطانيا، فإن دعمها لحفتر لا يخفى مع محاولات لكسب ثقة الساسة في المنطقة الغربية، فمصالح بريطانيا في ليبيا تُحتم عليها أن تحافظ على علاقات طيبة مع الجميع، لكنها كغيرها من الدول الغربية تخشى من النفوذ المتصاعد للتيارات الإسلامية في الغرب والجنوب الليبي، وترى في حفتر صمام أمان لمواجهة هذا النفوذ.
الموقف الأمريكي يدعم الاتفاق السياسي، ويطالب الأطراف الليبية بالالتزام به، ويرفض رفضاً تاماً أي محاولات لإفشاله أو تخطيه.
أما بالنسبة لروسيا فلم يظهر من جانبها أي انحياز لأي طرف في الأزمة الليبية، حتى ما أشيع مؤخراً عن اتفاق بين حفتر والروس نفته الحكومة الروسية، وأعلنت أنها ملتزمة بالاتفاق السياسي الليبي، ولن تعترف بأي جهة موازية له.
مشهد معقد
المشهد السياسي الليبي المستقبلي لم تتضح ملامحه بعد، فالتأثير الواضح لتطور الصراع العسكري يجعل التنبؤ بملامح هذا المشهد من الصعوبة بمكان، فالصراع بين ثوار المنطقة الشرقية وسرايا الدفاع عن بنغازي من جهة، وحفتر من جهة أخرى، سيحدد نسبة كبيرة من ملامح هذا المشهد، فإذا نجح الثوار في تحقيق ضربات موجعة لحفتر؛ فإن الكثير من الحسابات ستتغير، وقد نتفاجأ بتغيير دراماتيكي كبير في مجرى الأحداث قد يقود لصورة مغايرة لكل التوقعات، لذلك فالمشهد معقد جداً، والتنبؤ بالمستقبل صعب للغاية، لكن الثوار أقدامهم ثابتة وأهدافهم واضحة وموقفهم من الدكتاتورية وحكم العسكر موقف صارم ورافض.