مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان المسلمون يعيشون حالة من التراجع السياسي الكبير بفعل اقتطاع الاستعمار الأوربي لكثير من أراضيهم، وتراجع دورهم السياسي والقيادي في العالم والذي بلغ ذروته مع سقوط الخلافة العثمانية، ورغم هذه الحالة إلا أن تلك الفترة شهدت إقبالا من نخبة غربية على الإسلام، ولعل ذلك يعود في جزء منه إلى الأزمة الروحية في الغرب التي أخذت في التزايد عقب الحرب العالمية الأولى.
وفي هذا الوقت ظهرت شخصية غربية أسلمت باختيارها وبحثها عن الحقيقة، وحملت قضية المسلمين لتنبه الوعي الغربي بالمظالم التي يتعرضون لها المسلمون على يد الاستعمار، إنها شخصية الصحفي الدنماركي المسلم “كنود هولمبو” أو “أحمد علي الجزيري”، عندما غير اسمه بعد إسلامه، حيث سجل بقلمه وكاميرته جانبا من بشاعة الاستعمار الايطالي في ليبيا في نهاية العشرينات من القرن الماضي في كتابه “مواجهة الصحراء” “Desert Encounter”.
في أبريل من العام 1902 يولد كنود هولمبو في الدنمارك لأب ثري من رجال الصناعة، ويحصل على تعليم جيد، لكن شخصيته القلقة والمغامرة جعلته يتمرد على الحياة الرتيبة السهلة، ومع بداية تشكل وعيه تنشب الحرب العالمية الأولى عام 1914 ويدرك حجم المآسي والدمار الذي خلفته، وكعادة الحروب الكبرى فإن أسئلتها المصيرية تبدأ فور توقفها، فأخذ هولمبو في ظل أزمته الروحية يفتش عن السلام وينشد العدل، وأدرك أن الخلاص من أزمته في الدين، فاعتنق المذهب الكاثوليكي وهو في العشرين من عمره، واعتكف في أحد الأديرة الفرنسية عاما كاملا قضاها في التأمل، لكن روحه لم ترتو، فترك الدير وبدأ رحلة البحث عن خلاص جديد في الشرق الذي كانت تخضع أراضيه للاحتلال الفرنسي والإيطالي والإسباني والبريطاني.
يسافر هولمبو إلى المغرب لدراسة اللغة العربية لتساعده في عمله الصحفي، فيتأثر بالإسلام بعد تعرفه على المسلمين الذين التقاهم ويرى فيهم تجسيدا لمعاني المسيحية الحقة، فيعلن إسلامه 1924 ويتسمى بـ”أحمد علي الجزيري”، ويرسل إلى والديه في الدنمارك شارحا لهم روعة الإسلام وعظمته فيقول: “أؤمن بأن للإسلام مستقبلاً، وخاصةً في أوروبا الشمالية؛ حيث يبحث الإنسان في وقتنا عن دين يوفر له أكثر مما توفره المسيحية، فالإسلام يستطيع أن يحقِّق سعادة تامة لكل فرد، على خلاف الشيوعية الاشتراكية وكل الأفكار الجديدة التي تدعي ذلك”.
كان إيمانه عميقا ومتحركا فأدرك أن الإسلام هو صوت المستضعفين ونداء العدل في العالم، وأن المسلم الحقيقي هو من يحمل هموم المظلومين ويسعى لنصرتهم بكل سبيل؛ لذا اختار هولمبو الكلمة لتكون طريقه لتحقيق العدل؛ فأخذ يجوب الشرق ينقل أنات المعذبين على يد الاستعمار الغربي، ويعلن كذب الدعاية الاستعمارية في أن احتلال الشرق ما هو إلا رسالة الرجل الأبيض المتحضر تجاه الإنسانية وعبئه الذي كتبه عليه التاريخ لنقل الحضارة إلى الشرق؛ كان هولمبو يسبح بكلمته وكاميرته ضد التيار الجارف الذي لا يتورع عن سفك الدم حتى تبقى أكاذيبه الاستعمارية ستارا لإجرامه على الأرض.
ومنذ 1925 أخذ هولمبو يتنقل في بلدان الشرق عبر رحلاته فزار سورية وفلسطين والأردن والعراق وإيران، لكن شهرته أتت 1927 مع صورة نشرها لقسيس أعدمه الإيطاليون أثناء احتلالهم لألبانيا، لذا حرصت بعض الصحف الغربية أن تتواصل مع هولمبو ليكتب لها ويراسلها، لكنه أصبح مكروها من الايطاليين.
يعود هولمبو إلى الدنمارك فيعاني من صعوبات؛ وكأن الحقيقة تلح عليه أن يكتشفها في الشرق فيقرر الرحيل للبحث عنها في المغرب 1928 ويقيم فيها فترة رأى فيها جرائم الاستعمار الإسباني والفرنسي.
ومع أول يوم في 1930 يقرر القيام برحلة طويلة بسيارته في دروب الصحراء يخترق المغرب والجزائر وتونس وليبيا وصولا إلى مصر ومنها إلى الأردن والأراضي الحجازية، مغامرة مرعبة بكل مقاييس ذلك الزمان، فالصحراء الليبية تشهد قتالا شرسا بين المجاهدين السنوسيين وقوات الاحتلال الايطالي، كما أن كثيرا من دروب الأرض التي سيسير فيها مجهولة للرحالة الأوروبيين، إلا أن هولمبو قرر أن يكون الغربي الأول الذي يعبر الصحراء بسيارته.
سجل هولمبو مشاهدته في الرحلة الطويلة في كتابه “مواجهة الصحراء” ورأى معاناة المسلمين في تلك المناطق وقسوة الاستعمار، وتعرف منهم على حقيقة الإسلام، فلأول مرة يرى هؤلاء مسلما أوروبيا بعيون زرق ويتكلم العربية بطلاقة ففتحوا له قلوبهم.
كانت أهم مشاهداته في ليبيا حيث رأى جثث المجاهدين في الصحراء، وبدايات تجميع الإيطاليين للبدو وحشرهم في معسكرات لوقف تعاونهم مع المجاهدين، وشهد إعدامات عدد من المجاهدين؛ بل إنه وضع في السجن معهم وتأثر بإيمانهم الساطع حتى مع اقتراب الموت منهم، فيقول: “كانت ملابسهم رثة، غير أن نظرات السلام و التصميم على النصر علت وجوههم وهم نائمون. لقد أدركت الآن لماذا كان هؤلاء الرجال على استعداد للموت دون أن يهتز لهم جفن، كانوا يحمدون الله وهم تحت المشانق، كان هؤلاء بالنسبة لي أنبل من رأيت من البشر”.
تنتهي الرحلة بكتاب “مواجهة الصحراء” ليطبع في الولايات المتحدة ويحقق مبيعات كبيرة، فيصبح هولمبو عدو الاستخبارات الايطالية الأول، فتسعى للتخلص منه، وعندما عاد هولمبو إلى الشرق مرة أخرى في مايو 1931 ليؤدي فريضة الحج، يختفى في ظروف غامضة في منطقة العقبة الأردنية في 11 أكتوبر 1931 فلم يعثر له على جثة حتى الآن، فمضى الرجل وكأنه لم يوجد لكن بقي عشقه للحقيقة وإيمانه الكامل بها وكتابه الذي يعد وثيقة ضد الاستعمار الإيطالي في الثلاثينيات من القرن العشرين، لذا لم يكن غريبا أن يحتفظ المتحف القومي بطرابلس بصورة لـ”هولمبو” لدوره الرائد في نشر القضية الليبية والكتابة عنها.
المدصر: “إسلام أون لاين”