من خصائص التشريع في الإسلام: التيسير ورفع الحرج عن المكلفين. وهذا التيسير روح يسري في جسم الشريعة كلها، كما تسري العصارة في أغصان الشجرة الحية، وهذا التيسير مبني على رعاية ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه، وتعدد مشاغله، وضغط الحياة ومتطلباتها عليه، وشارع هذا الدين رؤوف رحيم، لا يريد بعباده عنتاً ولا رهقاً، إنما يريد لهم الخير والسعادة وصلاح الحال والمآل في المعاش والمعاد.
كما أن هذا الدين لم يجئ لطبقة خاصة، أو لإقليم محدود، أو لعصر معين، بل جاء عاما لكل الناس، في كل الأرض، وفي كل الأزمان والأجيال، وإن نظاماً يتسم بهذا التعميم وهذه السعة، لا بد أن يتجه إلى التيسير والتخفيف، ليتسع لكل الناس، وإن اختلف بهم المكان والزمان والحال. وهذا ما يحسه يلمسه كل من عرف هذا الدين.
فالقرآن ميسر للذكر، والعقيدة ميسرة للفهم، كما أن الشريعة ميسرة للتنفيذ والتطبيق. ليس فيها تكليف واحد يتجاوز طاقة المكلفين، كيف وقد أعلن القرآن هذه الحقيقة في أكثر من آية، فقال: “لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا” (البقرة:286)، “لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا”(البقرة:233) ، “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا”(الطلاق:7) ، كما علم المؤمنين أن يدعوا ربهم فيقولون: “رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ”(البقرة:286) ، وقد ورد في الصحيح: أن الله استجاب لهم.
وقد نفي القرآن كل حرج عن هذه الشريعة، كما نفي عنها العنت والعسر، وأثبت لها التخفيف واليسر. قال تعالى وهو يحدثنا عن رخص الصيام، من الفطر للمريض والمسافر: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”(البقرة:185).
وجاءت الأحاديث النبوية تؤكد هذا الاتجاه القرآني إلى التيسير نقرأ فيها: “بعثت بحنيفية سمحة”.
“إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”.
“يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا”.
وقد كانت سمة الرسول المميزة له في كتب أهل الكتاب هي سمة الميسر، ورافع الآصار، والأغلال التي أرهقت أهل الأديان السابقة، كما قال تعالى: “يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ”(الأعراف:157) .
ومن أدعية القرآن التي علمها للمؤمنين: “رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا”(البقرة:286) ، ولا غرو أن شرع الإسلام الرخص عند وجود أسبابها. وذلك كالترخيص في التيمم لمن خاف التضرر باستعمال الماء لجرح أو لبرد شديد، ونحو ذلك، لقوله تعالى: “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا”، ” وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” (البقرة:195) .
وكذلك الترخيص في الصلاة قاعدا لمن تضرر الصلاة قائما، والصلاة بالإيماء مضطجعا، أو مستلقيا لمن تؤذيه الصلاة قاعدا.
ومثل ذلك الترخيص في الإفطار للحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، وكذلك لمن كان مريضا أو على سفر، ومثله الترخيص للمسافر في القصر والجمع في الصلاة.
وجاء في الحديث: “إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تؤتى معصيته”. وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من شدد على نفسه، وصام في السفر، مع شعوره بشدة المشقة، وحاجته إلى الفطر، فقال في مثله: “ليس من البر الصيام في السفر”.
ومن هنا أصبح من القواعد الفقهية الأساسية المقررة لدى المذاهب الإسلامية كافة، هذه القاعدة الجليلة: “المشقة تجلب التيسير”. وهي أصل له فروع كثيرة وفيرة في شتى أبواب الفقه. وقد ذكرها العلامة ابن نجيم الحنفي، تفريعا على هذه القاعدة، أو تأكيدا لها، لا يتسع المجال هنا لإثباتها، فليرجع إليها من شاء التوسع والتفصيل.
وهناك أشياء متعددة اعتبرتها الشريعة من أسباب التيسير والتخفيف، منها: المرض، والسفر، والإكراه، والخطأ والنسيان، وعموم البلوى، ولكل منها أحكام فصلتها كتب الشريعة.
المصدر: موقع د. يوسف القرضاوي.