منذ الصغر وقضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى ارتبطت في أذهاننا بذلك البطل الهُمام والقائد المقدام، الذي قدر الله له أن يأتي في فترة من أشد فترات الأمة ضعفاً وتمزقاً ليقلب موازين القوى ويغيِّر خريطة العالم ويضع حداً للضعف والهوان الذي استمرأته الأمة عقوداً وسنوات ويعيد بيت المقدس إلى أحضان المسلمين بعد قرابة قرن من الاحتلال الصليبي، حتى أصبح اسمه مقروناً بدحر الصليبيين وتحرير المسجد الأقصى قِبلة المسلمين الأولى، وبدلاً من أن نربي الأجيال القادمة على أن يقتفوا أثره لنعيد للأمة عزتها وكرامتها، خرج علينا من يسبونه ويتطاولون عليه ويحاولون أن يطمسوا تاريخه المشرف.
وقبل أن نجيب على السؤال: لماذا هذه الكراهية لصلاح الدين؟! دعونا نغوص معكم في أغوار ذلك البطل ونعرف نشأته وتربيته وجهاده بشيء من الإيجاز.
نشأته وتربيته
صلاح الدين، يوسف بن نجم الدين أيوب، كردي الأصل، وُلد في مدينة تكريت سنة 532هـ، وتربى تربية إسلامية جهادية صحيحة، والتحق بجيش نور الدين محمود الذي أرسله إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه لمواجهة خيانة وزراء الدولة الفاطمية وإعادة مصر للحاضنة السنية، وبالفعل أصبح وزيراً لمصر بعد وفاة عمه.
جهاده وبطولاته:
ما قدمه صلاح الدين للإسلام لا ينكره إلا جاهل أو حاقد، ويكفيه أنه نجح في القضاء على أعظم خطرين تعرضت لهما الأمة:
1- القضاء على الدولة العبيدية الشيعية:
الدولة العبيدية الشيعية المسماة كذباً الفاطمية التي سيطرت على مصر والحجاز والشام في منتصف القرن الثالث الهجري وبدأوا في نشر مذهبهم الخبيث بالقوة؛ فبعد أن تولى صلاح الدين وزارة مصر شرع في القضاء عليها فحذف من الأذان العبارة الشيعية “حي على خير العمل”، وأغلق مساجد الشيعة، وأمر بالدعاء للخلفاء الراشدين على المنابر، وأعاد مصر وبلاد الشام إلي الحاضنة السنية بعد 209 سنة من محاولات الشيعة فرض مذهبهم على أهل السُّنة في مصر والشام والحجاز.
ولذا يقول العالم الشيعي محمد جواد مغنية: “لولا صلاح الدين لأصبحت مصر والشام والحجاز بلاداً شيعية الآن“.
1- القضاء على الخطر الصليبي:
بعدما توفي نور الدين محمود رحمه الله، أصبح صلاح الدين أمام مهمة جليلة ومسؤولية عظيمة؛ وهي تحرير العالم الإسلامي من خطر الصليبيين الذين احتلوا بلاد الإسلام وقتلوا المسلمين وحرقوا مقدساتهم وانتهكوا أعراضهم.
فجهز جيشه واستعد لمواجهة حاسمة مع جيوش النصارى الصليبيين، وقد كانت معركة حطين 583 هجرياً والتي كانت من أعظم ملاحم الإسلام، حيث اجتمعت جحافل الكفر والصليب لمواجهة المسلمين في حطين. وعلى الرغم من تفاوت العدد الكبير بين جيش المسلمين وجيش الصليب لصالح الصليبيين استطاع البطل المجاهد صلاح الدين، بفضل الله وإخلاص جنوده وهمتهم العالية، أن يسحق جيوش النصارى ويكسر شوكتهم وينتصر عليهم ويدخل بيت المقدس بعدها منتصراً شامخاً.
هذه كانت أهم أعماله، فضلاً عن مآثره التي لا يتسع المجال لذكرها، ويبقى السؤال الآن: لماذا الهجوم على صلاح الدين؟!
يقول الدكتور محمد رجب بيومي في كتابه “صلاح الدين قاهر الصليبيين”: ”كان صلاح الدين حاجب الرجّة الهائلة التي أوقفت المعتدين على شفا جُرف يُنذرهم بالهوة التي انفجرت من تحت أقدامهم، كما كان -رحمه الله- بمثابة كابوس جاثم على صدور أعدائه ومحطماً لآمالهم وأطماعهم، وقد اجتمع على عدائه الصليبيون والشيعة والعلمانيون.
أما الصليبيون، فقد تحطمت مشروعاتهم التوسعية وتبددت أحلام إمبراطورياتهم على صخرة صلاح الدين؛ لذلك فهم يحملون من الحقد والغل لصلاح الدين ما لا يحملونه لغيره،
وقد ظهر ذلك بعد دخول الفرنسيين سوريا بعد معركة ميسلون عام 1920، حيث ذهب قائدهم (هنري غوروا) إلى قبر صلاح الدين ورفسه بقدمه قائلاً: (ها نحن قد عُدنا يا صلاح الدين).
وكذلك الشيعة، فقد قضى صلاح الدين على آمالهم في إقامة خلافتهم الشيعية على أنقاض الخلافة العباسية السنية“.
أما عن كراهية العلمانيين له فكراهيتهم ليست لصلاح الدين في حد ذاته، إنما هي كراهية للتاريخ الإسلامي ورموزه العظام. وما صرح به يوسف زيدان مؤخراً ليس جديداً؛ فالرجل له تصريحات سابقة اتهم فيه التراث الإسلامي بأنه تراث عفن، وأن قادة المسلمين أمثال قطز وبيبرس وصلاح الدين وغيرهم ما هم إلا سافكو دماء، واتهاماته الأخيرة ليست سوى استمرار للتضليل والكذب.
فقد ذكر أن ما ورد من بطولات لصلاح الدين هي روايات مكذوبة دُست إلى كتب التاريخ بعد الخمسينات، وهذا كذب صريح فكبار المؤرخين -أمثال ابن كثير وابن الأثير وابن خلكان وغيرهم- وثّقوا هذه البطولات منذ قرون، فهي ليست روايات مدسوسة كما ادعى كذباً.
أما اتهامه لصلاح الدين بالقضاء على المذهب الشيعي في مصر وقطع دابر العبيديين، فهذا الكلام قد ذكره من قبله المؤرخ الشيعي حسن الأمين، وهذا اتهام لا يشين صلاح الدين؛ بل يزيده فخراً؛ فالرجل أنقذ الأمة من خطر عظيم، خطر الشيعة الذين جثوا على صدور أهل مصر والحجاز والشام قرنين من الزمان، تحالفوا فيهما مع الصليبيين وأذاقوا أهل السنة خلالهما الويلات، وأجبروا الكثيريين على اعتناق المذهب الشيعي وسب أم المؤمنين عائشة وكذلك كبار الصحابة، وقتلوا الآلاف من علماء أهل السنة، على رأسهم الإمام أبوبكر النابلسي الذي سلخوه حياً.
وليس معنى أن صلاح الدين قضى على المذهب الشيعي أنه أعمل فيهم القتل وأسال دماءهم أنهاراً أو عزل الرجال عن النساء كما ادعى زيدان؛ بل تركهم ولم يقاتل غير الخونة والمتمردين وسمح للباقين بالخروج من مصر، كما ذكر المقريزي، وتعامل مع الخليفة الفاطمي العاضد بالرحمة والشفقة وتركه حراً حتى مات.
أما ما يتعلق بقضية حرقه مكتبة القصر، فهذا أيضاً كذب متعمد؛ فالمكتبة تم تدميرها حين وقع الخلاف بين الجنود السودانيين والأتراك في عام 1068م، وهو العام الذي شهدت فيه مصر مجاعة كبيرة “الشدة المستنصرية” وتوابعها التي ظلت من 1036 و1094م ولم يستطع الخليفة آنذاك دفع رواتب الجند؛ ما دعاهم للهجوم على المكتبة والعبث بمحتوياتها، فأتلفوا كتبها.
وعمد العبيد إلى الكتب المجلدة تجليداً فاخراً فنزعوا أوراقها واتخذوا من جلودها نعالاً وأحذية لهم.
وأختم معكم بهذه الشهادة للفيلسوف والمؤرخ الأميركي وول ديورانت في كتابه الموسوعي “قصة الحضارة”ن حيث يقول ديورانت:
“إن صلاح الدين كان في العادة شفيقاً على الضعفاء، رحيماً بالمغلوبين، يسمو على أعدائه في وفائه بوعده سمواً جعل المؤرخين المسيحيين يَعجبون كيف يخلق الدين الإسلامي -الخاطئ في ظنهم- رجلاً يصل في العظمة إلى هذا الحد، وكان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا ديناراً واحداً؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية”.
—-
- المصدر: هفنتنج بوست عربي.