ذكرنا في المقال السابق أهمية الرجوع إلى أهل الاختصاص في كل مجال من مجالات الحياة، فهم أدرى الناس بمجالهم، وكما يقولون: “أهل مكة أدرى بشعابها” دلالة على ضرورة احترام التخصص.
وذكرنا فيها أن القاضي الشيخ أحمد الخميس أحال العم “أبو أحمد” وهو تاجر لقطع غيار السيارات وأحد المشترين المماطلين الذين تعاملوا معه والذي استغل طيبته وأنكر ما عليه من فواتير إلى لجنة التحكيم التجاري وهي مكونة من ثلاثة من تجار الكويت المشهود لهم بالنزاهة والاستقامة والخبرة التجارية فضلاً عن الحضور الاجتماعي ومعرفة شرائح المجتمع؛ وهم حمد عبدالمحسن المشاري رحمه الله، ومشعان خضير المشعان رحمه الله، وسيد علي سيد سليمان الرفاعي رحمه الله.
وفعلاً حضر المتخاصمان إلى أحد التجار المشهورين في مجال قطع الغيار وهو حمد الصالح الحميضي رحمه الله الذي طلب بدوره من البائع إثباتاته، فقد قدم له كافة فواتيره المفصلة التي لم يلزم بها الشاري بالتوقيع بالاستلام، فلما سأله: يا عم “بوأحمد”، ولماذا لم تقم بذلك؟ فقال على الفور: كنا نطلب من الأجانب التوقيع بالاستلام لضمان حقوقنا معهم، أما الكويتيون فكان بيننا الثقة فيهم، ولكن قدر الله أن يشذ منهم هذا الشاري، وقد كنا نمهله حتى بلغ مجموع المبلغ المستحق عليه عشرين ألف روبية، وفعلاً لعل لكل قاعدة شواذ.
فلما اطلع التاجر حمد الصالح الحميضي على الفواتير وجدها صحيحة ودقيقة من حيث تعبيرها عن الأسعار الواقعية في السوق، واستمع إلى حجة الشاري المماطل فوجدها واهية ولا حجة فيها ولا برهان.
فسأل البائع: هل ترضى بحكمي الذي سأشير به إلى حضرة القاضي؟ فرد العم بو أحمد وبلا تردد: “نعم”؛ ليقينه بحقه وعلمه بعدالة ونزاهة لجان التحكيم التي لولاها لما تم اختيارهم فيها من قبل رجال القضاء.
ثم التفت إلى الشاري المماطل في الدفع ليسأله: هل ترضى بحكمي؟ فأجاب الشاري: نعم ولا أريد غير ذلك، آملاً فيما يبدو بالتعاطف معه.
فكتب فيها رأيه وأودعه في مظروف مغلق موجه بشكل مباشر إلى حضرة القاضي، وقال: خذا هذا الخطاب إلى القاضي.
وهكذا كانت الإجراءات مبسطة سريعة فورية حاسمة، ثم عادا إلى الفور إلى المحكمة فسلماه باليد إلى الشيخ أحمد الخميس، والذي بدوره سأل الطرفين قبل أن يفتح الظرف عن مدى رضاهما بحكم الخبير (عضو اللجنة) فقالا كل منهما: نعم، وزاد الشاري: لا أريد إلا رأي هذا التاجر!
فلما فتح الشيخ أحمد الخميس الظرف وقرأ الخطاب وجه خطابه إلى الشاري المماطل في الدفع قائلاً: الآن تكتب شيكاً بعشرين ألف روبية لصالح البائع، فلما كتب الشاري الشيك – وعلى مضض – كتب تاريخه بعد شهرين في إمعان بالمماطلة وإمكانية سحب الرصيد، فانتبه الشيخ أحمد الخميس لهذه الحركة غير المستحسنة، فقال له: اجعل التاريخ الآن، وستبقى معي في المحكمة حتى يذهب البائع إلى البنك لصرف الشيك ويعود إليّ ليخبرني هل تم صرفه أم لا، باعتباره فيما يبدو كان يخشى أن يكون شيكاً دون رصيد، وكان قد هدد الشاري بأن يحجزه في الحبس إذا لم يلتزم بتوجيهاته.
وفعلاً ما كانت إلا فترة زمنية ليست بالطويلة ذهب فيها البائع وأودع الشيك واستلم حقه ونقله إلى حسابه ثم حضر إلى القاضي الشيخ أحمد الخميس ليبلغه بذلك فأفرج عن الشاري المماطل في الدفع.
وهكذا يبرز هذا الموقف المرجعية الفنية المتخصصة التي وفرها التاجر الكويتي للقاضي من حيث تقدير التخصص والخبرة وإعمالها في ترشيد الأحكام القضائية، سيما وأنها تصدر من الرجالات الثقات.
WWW.ajkharafi.com