ثلاثة عقود رسخت فيها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” إلى جانب تطورها اللافت والكبير في المجال العسكري، براعة في ميدان الفكر والأداء السياسي دون الانسلاخ عن تاريخها أو المساس بثوابت الشعب الفلسطيني.
ثبتت حماس على فكرها وبرنامجها السياسي المقاوم، متمتعة في الوقت ذاته بمرونة وحيوية عالية أهّلتها لتقديم نموذج فريد في الانفتاح والتعامل مع الواقع السياسي بتطوراته كافة، والجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وبين نموذجي الميوعة والتفريط والجمود الفكري والسياسي اللذين يسودان الساحة الفلسطينية والعربية اختارت حماس لنفسها نهجًا آخر في مجال السياسة وإدارة الصراع؛ إذ جمعت بين المقاومة الصلبة وبين الفكر الوسطي المعتدل والعقل السياسي المنفتح في التعامل مع معادلات الإقليم والعالم ومتطلبات الواقع.
وشكل خطاب الحركة وما تقدمه من لغة منطقية ومتفتحة انسجامًا تامًا مع إستراتيجيتها، بعيدًا كل البعد عن توجهات أخرى غرقت في متاهات التكتيك على حساب التمسك بالثوابت.
وإلى جانب التطور في الأداء الفكري والسياسي لحركة حماس، نجحت الحركة في إرساء قواعد متينة وصلبة لمشروع المقاومة في فلسطين؛ فشكلت أشبه ما يكون بالجيش النظامي، وبات جناحها العسكري كتائب القسام رأس الحربة في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقوقه.
يدٌ تبني ويدٌ تقاوم
خطت حركة حماس باتجاه المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006؛ تلبيةً لتطلعات الجماهير التي غدت ترى في حركة حماس فرصة للتغيير والإصلاح، تبعاً لما أثبتته الحركة من نجاح في مشروعها المقاوم.
رفعت حماس شعار “يدٌ تبني ويدٌ تقاوم” لتصحيح المسار، ولحماية الشعب والقضية، ففازت حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، في نتيجة أظهرت اختيار الشارع الفلسطيني المقاومة برنامجاً، وأصحاب البندقية ليقودوا المشروع الوطني.
وضربت حماس نموذجًا عمليًا في المزاوجة بين مسار التحرر الوطني ومتطلبات البناء والدولة، وواجهت الحركة والحكومة تحدياتٍ جسامًا استهدفت أساس وجودها وهددت مشروع المقاومة.
تجربة الحكم
شكلت حركة حماس الحكومة العاشرة وأعلنت مواصلتها نهج المقاومة، فبدأ الحصار وسلسلة المخططات لإفشال الحكومة التي تقودها الحركة، إلا أن حماس واجهت وجابهت وصمدت.
وأثبتت حماس أن وجودها في الحكم لا يمكنه أن يعطل المقاومة، فكان ردها على جريمة قتل عائلة هدى غالية على شاطئ بحر غزة بأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في عملية نوعية قادت لاحقاً لتحرير من يزيد على ألف أسير وأسيرة من سجون الاحتلال.
خاضت حماس إلى جانب شعبنا معركة الحصار وحروبًا قاسية، استطاعت الخروج منها أصلب عودًا وأكثر قدرة على العطاء، وأثبتت إصرار الحركة وتوفر الإرادة الحقيقية لإحراز التقدم في المسارين.
وتمكنت خلال السنوات الماضية من تأسيس قاعدة صلبة ومتينة للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة باتت تحسب لها دولة الكيان ألف حساب، خاصة بعدما باتت الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة في مرمى صواريخها.
وفي ظل حكم حركة حماس، غدت المقاومة أكثر قوة وإيلاماً للعدو، وفرضت عليه معادلات جديدة، وضربت المرتكزات الأساسية لنظرياته الأمنية والعسكرية، وهذا لم يكن ليحدث دون وجود حكومة تحمي ظهر المقاومة وتوفر لها الغطاء السياسي.
وبرزت تجليات التكامل بين الأداء السياسي للحكومة والفعل المقاوم في معركة “حجارة السجيل” التي أبدعت فيها المقاومة ولعبت الحكومة دورًا سياسيًا في استقطاب الفعل الإقليمي الداعم وحمت ظهر المقاومة.
العلاقات الدولية
ونجحت حركة حماس في نحت تجربة جديدة في بناء العلاقات السياسية وإدارتها، تتعامل فيها مع الواقع بكل مكوناته، ومع احتياجات العمل السياسي بتفاصيله، دون أن يكون ذلك متناقضًا أو متعارضًا مع فكرها وثوابت الشعب الفلسطيني.
وتستند حماس في علاقاتها السياسية دائمًا إلى مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته، وترفض بناء أيّ شكل من العلاقات على قاعدة التوظيف السياسي لها أو لأدائها لصالح أجندات قد تتعارض مع مبادئها.
وبحثت حماس في بناء علاقاتها السياسية عن القواسم المشتركة، واستندت في علاقاتها الإقليمية والدولية إلى مجموعة من الضوابط والمعايير كان لها الأثر الأكبر في نجاحها في دفع علاقاتها قدمًا مع العديد من الأطراف، وإحداث اختراقات مهمة في هذه العلاقات على الرغم من حملات التشويه الإسرائيلية الشرسة بحق الحركة.
فقد أكدت الحركة التزامها بسياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت أيّ ظرف، أو أن تكون تحت جناح طرف أو فريق مهما كانت حالة الانسجام والتوافق وحسن العلاقات.
وحرصت حماس في علاقاتها مع الدول عدم مواجهة دول أو أطراف أخرى، وأكدت مرارًا على حصر ميدان عملها العسكري ضد الاحتلال في أرض فلسطين.
وبنت الحركة علاقاتها على المستويين الشعبي والرسمي، بطريقة تحافظ فيها على علاقتها مع الدولة ومؤسساتها، كما أقامت علاقات على المستوى الشعبي؛ إدراكًا لأهمية العلاقات الشعبية، ونجحت الحركة في تحقيق ذلك.
مجموع هذه المبادئ والسياسيات وغيرها أسهم في نجاح حركة حماس في دفع علاقاتها قدمًا إلى الأمام مع عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، كتركيا وإيران وروسيا والصين وقطر ودول شرق آسيا وجنوب أفريقيا ودول أمريكا اللاتينية وعددٍ من دول الاتحاد الأوروبي.
ورغم مساعي الاحتلال إلى تشويه صورة الحركة في العالم ودفع المجتمع الدولي لوصمها بـ”الإرهاب”، إلا أن حماس نسجت علاقات مع العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، ثار على إثرها غضب الاحتلال واللوبي المؤيد له.
الوثيقة السياسية
وتوجت حركة حماس ثلاثين عامًا من مسيرتها في المقاومة، بالإعلان عن وثيقة المبادئ والسياسات العامة، التي تعكس التطور الطبيعي والتجدد الحيوي للحركة، لتصبح مرجعًا للأداء السياسي للحركة.
وتتمتع الوثيقة السياسية بعدد من المعالم والمزايا، أهمها اللغة السياسية والقانونية المحترفة والمعاصرة، التي تخاطب الأنظمة والمجتمعات العربية والدولية باللغة التي يفهمونها.
وتتصف بنود الوثيقة التي تتعلق بالثوابت بالصلابة والوضوح، وتؤكد عليها في مواضع عديدة بشكل لا يحتمل اللبس، إضافة إلى تمتعها باللغة السياسية المرنة المنفتحة على الواقع، والتي تؤكد على المشترك مع الآخرين دونما إخلال بالثوابت.
وغطت الوثيقة الخطوط الأساسية كافة بشكل متوازن في أحد عشر عنوانًا، شملت تعريفها لنفسها، ولأرض فلسطين وشعبها، ولرؤيتها الإسلامية لفلسطين، وللقدس، وغطت موضوع اللاجئين وحق العودة، والمشروع الصهيوني، والموقف من الاحتلال ومن التسوية السياسية، وحددت رؤيتها للمقاومة ومشروع التحرير وللنظام السياسي الفلسطيني، كما تحدثت عن الأبعاد العربية والإسلامية والدولية والإنسانية.
وبينما تحتفي الحركة بانطلاقتها الثلاثين، تمضي حماس في مسيرة المقاومة تصون الثوابت وتحمي المقدرات وتعاظم الجهد وتكاثف العمل؛ سعياً لتحرير الأرض والإنسان.