السعيد من دخل محطة رمضان وتزود فيها بالوقود اللازم لسلامة قلبه وتزكية نفسه على الدوام
المصانع التي تتعطل آلاتها عن الإنتاج حيناً وتعمل حيناً مصانع غير ناجحة حيث لا تفي بالإنتاج المطلوب
أخْذ النفس وإلزامها بالعبادات في رمضان طريق للمداومة عليها حتى لا تنقطع
لو أن كل مسلم تصدق بصدقة صغيرة وداوم عليها لتجمعت وأنشئت بها مشاريع تغني الفقراء
إنها محطة المداومة على الرعاية والريّ، والاستمرار بالتعهد والسقي لثمرة التقوى التي كبرت في قلوبنا وظهرت على سلوكنا في شهر رمضان، وقد آن لها أن تثبت بعده لتقوَى وتشتد، لا أن تذبل بالفتور، أو تضعف بالتسويف، أو تُوأد بالكسل، أو تذهب مع طول الأمل، فالسعيد منا من دخل هذه المحطة وتزود فيها بالوقود اللازم لسلامة قلبه وتزكية نفسه على الدوام.
إنها أنفاس وساعات ولحظات، تجري بنا ونجري معها، فها قد أتى شهر رمضان، ولبث فينا أياماً معدودات، ثم ما لبث أن انتهى وفات حاملاً معه حقائب أعمالنا طيلة أيامه ولياليه، ليأتي بعده شوال الذي سينتهى أيضاً ويفوت؛ فهو ليس بأكرم من أخيه الراحل رمضان! وهكذا هي رحلة الحياة، أيام تأتي وتمكث فينا ثم تشد رحال ساعاتها وتمضي وتزول بعد أن سُطرت أعمالنا فيها، وأحصيت لنا أو علينا، فقد كان وما زال عن يمين كل منا ملَك ملازم لنا لكتابة الحسنات، وعن الشمال كذلك ملَك آخر ملازم لنا لكتابة السيئات؛ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18}) (ق)؛ فيا للحسرة على مَن غفل عن ذلك ونسيه أو تناساه بعد رحيل رمضان!
إن المصانع التي تتعطل آلاتها عن الإنتاج حيناً وتعمل حيناً لهي مصانع غير ناجحة، حيث لا تفي بإنتاج المطلوب منها؛ كسلاً وخمولاً، وإن التجارة التي يهملها صاحبها ولا ينميها لهي تجارة كاسدة تحتاج لمن ينعشها ويربحها، وإن المريض الذي أمره طبيبه بالمداومة على أخذ الدواء فلم يأخذه فلا يلومن إلا نفسه إذا اشتد عليه مرضه وساء، وإن الورود والأزهار التي يفوح عطرها ويسر الناظرين شكلها لتذبل وتموت إذا منع منها الماء!
وهكذا قلوبنا وهي أوعية الإيمان تحتاج لمن يداوم على إصلاحها ويعمل على زيادة الإيمان فيها على الدوام، وإلا قست وماتت والعياذ بالله.
«كان عمله ديمة»:
لقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يثبت على العبادة والعمل الصالح حتى يأتيه الموت الذي يوقن به، فقال له: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99}) (الحجر)، لأنه إذا أتى فلن يقدر على عمل ولن تكون عبادة، قال الشيخ السعدي: «استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات»، واستدل ابن كثير بهذه الآية الكريمة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب».
وقد سئلت عائشةَ رضي الله عنها عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان عملُه دِيمَة» (رواه البخاري)، قال ابن حجر: والديمة في الأصل المطر المستمر مع سكون بلا رعد ولا برق ثم استعمل في غيره، والحكمة في ذلك أن المُديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازى بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلاً ثم انقطع، وأيضاً فالعامل إذا ترك العمل صار كالمُعرِض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء.. والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات. (فتح الباري شرح صحيح البخاري).
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- يداوم على العمل، فالأحرى بنا أن نتخذه القدوة والمثل في ذلك، وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أَثْبَتَه أي داوم عليه».
أحب الأعمال إلى الله أدومها:
إنه لمن المؤسف حقاً أن يعلق البعض منا عباداته من صيام وقيام وصدقة ومعروف، ومن نوافل العبادات وفروضها، فيربطها بشهر رمضان فقط! تراه يشمر لها ويعمل بهمة ونشاط، ثم لا يلبث بعد انقضاء الشهر أن تقف به قافلة العمل وتنقطع حبالها! ويحاصره طابور الكسل، ويلقي بنفسه في دائرة الأمل التي تحبسه داخلها، وكأن العبادات فرائضها ونوافلها لم تشرع إلا في أيام معدودات، وهذا فهم خاطئ يحتاج للتصحيح، فإن العمل إذا انقطع توقف أجره وثوابه، فعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خُذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمَلُّ حتَّى تمَلُّوا» (أي: فإن الله لا يَمَلُّ مِن ثوابك حتى تَمَلَّ من العمل)، وكان أحَبُّ الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدومها وإن قلَّ، كان إذا صلَّى صلاة داوم عليها. (صحيح ابن حبان).
وقد روى الإمام البخاري يرحمه الله، في كتابه «الجامع الصحيح»، بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «أَدْوَمُها وإنْ قَلَّ»، وقال: «اكْلُفُوا مِن الأعمال ما تُطِيقُون».
يقول الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: «إن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع؛ لأنه بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص، والإقبال على الله سبحانه ويستمر القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة».
ولهذا، قال بعض الحكماء: إذا غفلت النفس بترْك العبادة، فلا تأمن أن تعود إلى عاداتها السيئة، وقال ابن حزم: إهمال ساعة يفسد رياضة سنة، وقال الحسن البصري: يا قوم المداومة المداومة، فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، وقال أيضاً: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مُداوماً في طاعة اللَّه، فَبَغَاكَ وَبَغَاكَ (أي: طلبك مرة بعد مرة)، فرآك مُداوماً مَلَّكَ وَرَفَضَكَ، وإِذا كنتَ مَرَّة هكذا ومرَّة هكذا طمع فيك. (الزهد والرقائق لابن المبارك).
أعمال لا تنقطع في حياة المسلم:
إن شهر رمضان كان أرضاً خصبة وصالحة لنمو أعمالنا الصالحات وتكاثرها وزيادتها وبركتها، وإن العبادات المتنوعة والمستمرة في أيامه ولياليه كانت السبيل إلى ثمرة التقوى التي هي حجر الأساس في بناء الإيمان في قلب كل منا.
وقد كان أخذ النفس وإلزامها بالعبادات في رمضان طريقاً للاعتياد عليها والمداومة على القيام بأصل هذه العبادات حتى لا تنقطع، ومن ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على المداومة على الصوم في غير رمضان، حيث قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر» (رواه مسلم).
وأوصى أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكان هو صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، ورغب في صيام تسع ذي الحجة، كما حث على قيام الليل فقال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (رواه مسلم).
ودعانا أن نستمر على ذكر الله، فقد جاء أعرابيَّان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحَدُهما: يا رسولَ الله، أخبِرْني بأمرٍ أتشبَّثُ به قال: «لا يزالُ لسانُكَ رَطْباً مِن ذِكْرِ اللهِ» (صحيح ابن حبان).
وبيّن الصورة والمنزلة الطيبة لمن حسن خلقه كل وقت، وليس في رمضان فحسب، فقال: «أقربُكم مني مجلساً يومَ القيامةِ أحسنُكم خُلُقاً» (صحيح الجامع).
فالمداومة على العمل الصالح تأتي بالخير الكثير وتنمي العمل وتزيده وتبارك فيه، ولك أن تتصور الحال كمثال لو أن كل مسلم تصدق بصدقة صغيرة وداوم عليها فستجد لذلك عجباً! إذاً لتجمعت الصدقات وأنشئت بها مشاريع كثيرة تغني الفقراء وتشغل العاطلين وتسد حاجتهم، وهكذا الحال في كل الأعمال.
إن كل عمل نعمله في حياتنا يستغرق جزءاً من عمرنا، فأعمالنا أعمارنا، وإذا أراد المسلم أن يطول عمره فعليه أن يديم عمله، وينظر بِمَ يملأ كِيس عمره، ويكثر من ذكر ربه، ويطلب غفران ذنبه، وإذا ما أصابه الفتور في ذلك فليراجع نفسه ويحاسبها ويدعو ربه راجياً منه القوة والثبات، وليكن له صديق صدوق صالح إن رأى منه خيراً أعانه، وإن رأى فتوراً وكسلاً ذكَّره ونصحه وتعاون معه على البر والتقوى.