أثار الحوار الذي أجرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، أخيراً، مع السفير الأوروبي بتونس باتريس بيرغاميني، جدلاً متواصلاً وردود فعل مختلفة في الوسط السياسي والإعلامي، وداخل المجتمع المدني، وبطبيعة الحال الرأي العام التونسي، حيث اختلفت الردود بين الاستهجان، والإعجاب، والتثمين.
وكان السفير الأوروبي باتريس بيرغاميني قد وصف تونس بالجندي الذي يصارع في سياق إقليمي مضطرب من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي واستكمال مسار بناء المؤسسات الدستورية في البلاد، وأن النموذج الديمقراطي التونسي يحتاج إلى تنمية اقتصادية، وأن الاتحاد الأوروبي لا يريد أن يفقده في منتصف الطريق.
تأثيرات ليبيا
أقر بيرغاميني بأن تونس قد تضررت من الفوضى التي تعرفها جارتها ليبيا، وهي المتنفس الاقتصادي لتونس، حيث إن استمرار الفوضى في هذا البلد يعني ضرورة البحث عن عمق اقتصادي جديد، فالجزائر مثلاً تعرف حراكاً هادئاً ولا بد من التعامل معه بحذر، فأي تعقيدات جديدة في الشقيقة الكبرى ستشكل ضرراً للاقتصاد التونسي وكذلك الاستقرار السياسي.
وأشار إلى أن تونس تعاني من مشكلات أمنية على طول شريطها الحدودي، وهي في حاجة إلى الدعم الأمني خاصة من الاتحاد الأوروبي في سنة انتخابية، علاوة على الدعم الاقتصادي من الاتحاد الأوروبي، حيث يساهم باعتمادات تتجاوز 300 مليون يورو سنوياً، إضافة إلى عرض “الأليكا” الذي يتم التفاوض حوله في الوقت الراهن.
عائلات تسيطر على الاقتصاد
بيد أن ما ركزت عليه كافة التعليقات هو قول السفير الأوروبي: هناك في تونس من يرفض المنافسة الحرة والشفافة وخاصة من المحتكرين، فبعض المجموعات العائلية التي تسيطر على الاقتصاد التونسي ترفض تواجد شركات ناشئة وشابة، وهذا أيضاً يتعارض مع الفساد والسوق السوداء، وضرب مثلاً لذلك: فعلى مستوى إنتاج زيت الزيتون مثلاً، عام 2018، قررت المفوضية الأوروبية منح حصة إضافية قدرها 30 ألف طن من زيت الزيتون المعلب، ولم نتلق إجابة من الجهات الرسمية التونسية، وهذا يعود لرفض المضاربين وكبار المنتجين الذين يخشون ظهور شركات تونسية شابة في مجال تعليب زيت الزيتون، وهو ما قد يقلل من أرباحهم في صورة وجود منافسين جدد.
وعن هجرة العقول من تونس، قال السفير الأوروبي: إن الحديث عن هذه الظاهرة هو من المغالطات الكبرى، فتونس تعاني من ظاهرة تهجير العقول وتنفيرها، وذلك لضعف أجور الكفاءات في تونس، وتابع: المهندس مثلاً يتقاضى أقل 6 مرات من نظيره في أوروبا، علاوة على قلة الفرص، وهو ما سيدفع بهذه الأدمغة قسراً إلى الهجرة.
منصة رقمية
وقد بدا وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي زياد العذاري، (حزب حركة النهضة) موافقاً، حيث علّق على تصريحات السفير الأوروبي بقوله يوم الخميس، 11 يوليو 2019: إن جملة الإجراءات التي وضعتها الدولة خاصة المنصة الرقمية، هو في إطار التصدي لما يسمى بـ”اللوبيات”، أو وجود جهات محددة تتمتع بإمكانيات تجعل بعثها لمشاريع أكثر سهولة، وذلك في رده على سؤال لإذاعة “شمس إف إم” المحلية حول تصريحات السفير الأوروبي.
وشدد العذاري على ضرورة فتح المجال الاقتصادي أمام الجميع، وهو دور الإدارة والدولة للتصدي للاحتكار؛ لأن العبرة هي بنجاعة المشروع الاقتصادي وليس بنفوذ صاحبه أو تاريخه أو علاقاته وامتيازاته.
رد فعل
من جانبه، اعتبر نقيب الصحفيين التونسيين ناجي البغوري (كبرى النقابات الصحفية في تونس) تصريحات سفير الاتحاد الأوروبي بتونس، باتريس بارغماني، التي قال فيها: إن الاقتصاد التونسي ينخره الفساد ويحتكره “لوبيات” وثلاث عائلات، قبل أسابيع صرح سفير الاتحاد الأوروبي بتونس، باتريس بارغماني، بأن الاقتصاد التونسي سيتعافى وسيحقق نمواً محترماً، وأن تونس هي تجربة ديمقراطية فريدة في المنطقة، كان أمله آنذاك أن تمضي تونس على اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق في أفق 2019 لإنجاح مهامه، ولما خاب أمله في ذلك صرح بأن الاقتصاد التونسي تحكمه “لوبيات” ومراكز نفوذ.
وأضاف: سعادة السفير، نحن مرتاحون لعدم إمضاء الاتفاق بشروطكم رغم استعدادنا لتعاون متكافئ وعلاقات احترام متوازنة، ولكن لا يمكن أن نصدق سرعة انتقالكم من المدح إلى الذم.
وتابع: أما عن “اللوبيات” ومراكز النفوذ، فنحن أولى باكتشافها والتعامل معها.
وفي هذا السياق، قال وزير السياحة روني الطرابلسي لإذاعة “موزاييك”، يوم الخميس 11 يوليو 2019م: تونس بلد صغير، وفيها رجال أعمال يعملون بجد ويساهمون في إدخال العملة الصعبة للبلاد، أستغرب كيف يقوم أجنبي بإبداء رأيه في اقتصاد تونس!
كلمة حق
أستاذ القانون الدستوري، جوهر بن مبارك، كتب على صفحته على “فيسبوك”: إنه لأول مرّة ديبلوماسي رفيع المستوى يضع إصبعه على أمر موجع، سنلف وسندور مرّات ومرّات كالمجانين، ولكن في الأخير سنصل إلى المواجهة الحقيقية التي بالكاد نهمس بها خلسة، في حين طرحها السفير الأوروبي بصوت مسموع، واعتبر أن ذلك سيهزّ عروش مصّاصي الدماء وسطوة عائلات “كوّشت” على ثروة شعب بكامله، وخلقت لنفسها نادياً مغلقاً للامتيازات والاحتكار والزبونية بتواطؤ الإدارة العمومية والسلطة السياسية المتعاقبة منذ حقبة الاستعمار، على حد تعبيره.
وشدّد على أن تفكيك منظومة الاحتكار وتحرير الاقتصاد من سطوة “أوليغارشيا” الريع، وغلق نادي الامتيازات نهائياً، هو البرنامج الوحيد الكفيل بإدخالنا عهد التنمية الاقتصادية، بنمط جديد يخلق الثروة ويحسن إدارتها بنجاعة وشفافية وعدل.
وأوضح أن كلّ البرامج الأخرى هي محاولات لإنقاذ اقتصاد المخزن الاحتكاري وضمان ديمومته ليتواصل نهب قوت العبيد، دون إثارة سخطهم.
ولفت الانتباه إلى أن معركة الشعب الجارية الآن بصمت ضدّ لصوص يرتدون ثوب الأكابرية (الأكابر) سيرتفع قرعها وضجيجها، وهذه ستكون أمّ المعارك وأخطرها وأكثرها مقامرة ومخاطر.
ومضى قائلاً: كم أتمنى أن يجد الشعب قوّة سياسية تقود نضاله وتؤطّر مسيرته بتبصّر وحنكة وتصميم للانتصار في حربه وثورته الهادئة هذه ليمنحها ثقته ويأتمنها على إنجاز التحوّلات الضرورية لإدخال الاقتصاد التونسي العصر والحداثة.
وقال: وجدت ضالّتي وأعرف من يمكنه ممارسة هذا الدور، وحسمت أمري، ولكن جزءاً مهماً من الشعب لا يزال ينظر إلى الجهة الخطأ، الجهة المعاكسة لمصالحه، جهة أعدائه، جهة الذئاب المخادعة المتنكرة في صوف الخرفان.