لبنان بلد صغير مساحة وسكاناً يتجاوز عدد سكانه 6 ملايين بقليل، لكنه بلد مهم بموقعه بين سورية وفلسطين وبتقاطعاته الجيوسياسية وإطلالته على البحر المتوسط، حيث الاكتشافات الجديدة لموارد الطاقة الهيدروكربونية، كما أن لبنان مميز بتشكيلته السياسية الفريدة، حيث توصل الزعماء اللبنانيون الذين قادوا حركة الاستقلال إلى توازن سياسي بين المسلمين والمسيحيين، حددوا بموجبه المراكز الرئيسة في الدولة ليكون رئيس الجمهورية من المسيحيين المارونيين، ويكون رئيس الوزراء من المسلمين السُّنة، ورئيس مجلس النواب من المسلمين الشيعة.
وفي إطار حرصها على ممارسة دور إقليمي فاعل، عملت تركيا دائماً على تحسين العلاقات مع لبنان، ويمكن بوضوح مشاهدة مؤشرات عملية التحسين هذه ومنها زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة الأسبوع الماضي، وتصريحات السفير التركي في لبنان في فبراير 2019م التي أكد فيها التزام بلاده بدعمها القوي للحكومة اللبنانية الجديدة والعمل معها بشكل وثيق جداً بما يحقق مصالح الشعب، وبرقية الرئيس أردوغان التي هنأ بها الحريري، والاهتمام بالأقلية التركمانية وتنشيط التجارة والسياحة مع لبنان.
ومن المعروف أن حزب العدالة والتنمية انتهج سياسة انفتاح تجاه الشرق الأوسط منذ عام 2002م، وارتكز على التعاون الاقتصادي وأدوات القوة الناعمة الأخرى، ولكن بدأت علاقاته مع لبنان تتحسن بشكل ملحوظ بعد عام 2009، حيث تحسنت العلاقات التركية السورية آنذاك، حيث كانت أنقرة تدرك حساسية العامل السوري في لبنان مما انعكس على العلاقات مع لبنان، وقد ظهر هذا في العلاقات الاقتصادية في نهاية عام 2011م مع الإشارة إلى أن العلاقات الاقتصادية بين تركيا ولبنان بدأت في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي حين تم توقيع اتفاقية النقل الجوي تلتها بعد ذلك اتفاقيات اقتصادية، تجارية، صناعية، وثقافية بين البلدين.
هناك الكثير من العوامل التي تجعل بلداً مثل تركيا يهتم بلبنان، ومن هذه العوامل أن لبنان بلد من بلدان شرق المتوسط التي يعتبر موقفها حتى لو كانت دولة صغيرة مؤثراً في مستقبل المنطقة وقضاياها المهمة سواء القضية الفلسطينية أو الثورة السورية أو موارد الطاقة شرق المتوسط وغيرها، ويشترك لبنان مع تركيا في عدد من القضايا، كما يحتضن لبنان أقلية تركمانية تحظى باهتمام الدولة التركية، بالإضافة إلى وجود أقلية الأرمن الذين يزعجون الدولة التركية أحياناً من خلال إثارة قضية إبادة الأرمن.
يعتبر لبنان خاصة في قضية موارد الطاقة المكتشفة شرق المتوسط بلداً مهماً لتركيا، حيث شكلت مجموعة من الدول منها اليونان وقبرص ومصر و”إسرائيل” كتلة تحت اسم “منتدى شرق المتوسط”، ويبدو أن كلاً من لبنان وتركيا تم استبعادهما، بالإضافة لسورية، ولهذا فإن هذا التكتل يفرض على الجهات المستبعدة أو على الأقل يحثها على التقارب والتعاون لموازنة التكتل الآخر.
إن جوار لبنان المباشر لفلسطين وتاريخ لبنان فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية يجعل لبنان بلداً مهماً بالنسبة لتركيا التي تهتم بالقضية الفلسطينية، وتؤدي دوراً مهما خاصة على الصعيد الدبلوماسي، وقد عملت جنباً إلى جنب مع لبنان ضد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
إن جوار لبنان الآخر لا يقل أهمية وهو سورية التي تمثل قضية أساسية لتركيا، ويندرج في هذا السياق ملف اللاجئين و”حزب الله” والعلاقة مع إيران، وكلها ملفات أساسية ومهمة في الشأن السوري ومقاربته.
الأقلية التركمانية بلبنان
تقدر أعداد أبناء الجالية التركية في لبنان، بحوالي 50 ألف شخص، غالبيتهم لا يحملون الجنسية التركية، ويعود تاريخ قدومهم للبنان إلى مطلع القرن الماضي.
أما الأتراك الذين يعيشون في لبنان ويحملون الجنسية التركية، فيبلغ عددهم نحو 15 ألفاً، فيما يبلغ عدد من يحق لهم الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، حوالي 3700 شخص.
وينحدر الكثير من الأتراك المقيمين في لبنان من مناطق الأرياف في جنوب تركيا، خاصة ولاية “ماردين”، وغالبيتهم يتقنون اللغة العربية، وقليلاً من اللغة التركية، وترى بعض الدراسات أن عدد التركمان يقدر بحوالي 19 ألف نسمة موزعين في 3 مناطق في شمال لبنان وفي البقاع وفي طرابلس، ويقومون بدور كبير في تلميع صورة تركيا في لبنان، كما تهتم تركيا بمساعدتهم وتوفير العديد من الخدمات لهم مثل المدارس وبعض منشآت البنية التحتية.
الاقتصاد والسياحة والخدمات
من زاوية أخرى، تهتم تركيا بلبنان من الزاوية التجارية الاقتصادية حتى وإن كان حجم التجارة الثنائية ليس كبيراً في حدود 1.5 مليار دولار، ولكنها تهدف لرفعه، وعلى سبيل المثال سلمت تركيا في مارس 2018 إلى الجيش اللبناني معدات عسكرية بقيمة مليون دولار، ضمن إطار “اتفاقية المساعدات الخارجية العسكرية اللوجستية” المبرمة بين البلدين، حيث سلمت تركيا الجيش اللبناني 147 قطعة غيار للدبابات ولناقلات الجنود المدرعة، تصل قيمتها إلى مليون دولار أمريكي، ويعد هذا أمراً مهماً للاقتصاد التركي ولمجال التصنيع العسكري على وجه التحديد.
كما أن اللبنانيين من أكثر مواطني الدول العربية سياحة إلى تركيا، وعلى سبيل المثال؛ فقد قال غسان المعلم، السفير اللبناني لدى أنقرة، في نوفمبر 2018م: إن مليون لبناني زاروا تركيا في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2018، وقد ذكر تقرير لوكالة “الأناضول” أن هناك أسباباً عديدة وراء تفضيل اللبنانيين للسفر إلى تركيا، أبرزها عدم وجود تأشيرة دخول (فيزا)، وتقديم مكاتب السفر اللبنانية عروضاً مغرية؛ إلى جانب شغف اللبنانيين بجمال الطبيعة التركية وعشقهم للتسوق هناك في ظل الأسعار المناسبة للجميع.
وفي مجال الكهرباء، تؤمن شركة “كارادينيز” التركية للطاقة، التي يوجد لديها 3 بواخر عبارة عن محطات طاقة عائمة مجهزة بأفضل التقنيات حوالي 35 – 40% من الكهرباء في لبنان، وبسعر أرخص من السعر الذي تعمل عليه معامل الطاقة القديمة في لبنان، علماً أن إجمالي عجز الكهرباء المتراكم في لبنان (من العام 1992 وحتى نهاية العام 2017م)، يبلغ 36 مليار دولار أمريكي، ما يمثل حوالي 45% من إجمالي الدين العام الذي بلغ 79.5 مليار دولار مع نهاية ديسمبر 2017م.
لا يخلو الأمر من إشكاليات
قبل شهرين تقريباً قرر مجلس الوزراء اللبناني منع دخول البسكويت والويفرز ومواد التنظيف التركية، وقد تم تبرير القرار بأنه قرار اقتصادي لحماية المنتج الوطني في ظل الأوضاع الاقتصادية اللبنانية، وأن تضاعف حجم الواردات من لبنان أصبح يهدد قطاعات إنتاجية في لبنان، على حد قول وزير الاقتصاد اللبناني السابق رائد خوري؛ مما استدعى ضرورة إعادة النظر بالميزان التجاري، وبحث سبل زيادة الصادرات إلى تركيا، ولهذا قام الطرفان بتفعيل اللجنة اللبنانية التركية المشتركة التي لم تجتمع منذ عام 2009م.
ومع تعيين وزير الاقتصاد الجديد منصور بطيش، أكد أن حكومته تولي اهتماماً كبيراً بالعلاقات التجارية مع تركيا، وقد تم نقض القرار السابق، وتم إعادة الاستيراد من تركيا مقابل إعادة استيراد حديد الخردة من لبنان.
لقد أكد وزير الخارجية التركي في زيارته الأخيرة دعم تركيا للبنان ومؤسساته الدستورية من جهة، كما أكد ضرورة التعاون الاقتصادي واهتمام الشركات التركية بالاستثمار في لبنان، خاصة في مشاريع البنية التحتية، كما تم الاتفاق على تفعيل اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين البلدين، وترتيب عقد اجتماع قريب للجنة الوزارية العليا اللبنانية التركية المشتركة، وخلال اللقاء أبلغ الحريري الوزيرَ التركي أنه وقَّع مرسوماً يقضي برفع الحظر المفروض على استيراد بعض المنتجات التركية إلى لبنان.
ونبقى أن نشير إلى أن تركيا تدرك طبيعة السياسة المعقدة في لبنان، ولهذا فهي تحرص على التواصل مع كافة الأطراف الرسمية، وقد رأينا أن الوزير التركي قد عقد لقاءات منفصلة مع كل من الرئيس اللبناني ميشيل عون، ونظيره جبران باسيل، ورئيس مجلس النواب نبه بري.
وقد توترت الأجواء بعد كلام الرئيس اللبناني ميشال عون في الذكرى المئوية لتأسيس دولة لبنان الكبير الذي احتوى انتقادات للحقبة العثمانية في لبنان، واصفاً ممارسات الإمبراطورية العثمانية بإرهاب دولة؛ مما استدعى رداً تركياً من وزارة الخارجية، ردت عليه الخارجية اللبنانية باستدعاء السفير التركي؛ مما يشير إلى وجود صعوبات في طريق تقوية العلاقات، ومع وجود “حزب الله” الذي يعد حليفاً قوياً لإيران، فإن هذه صعوبة أخرى أمام تركيا لمزيد من النفوذ في لبنان.
ولكن يمكن لتركيا ولبنان أن يتعاونا في عدة قضايا أساسية في المنطقة، ويمكن أن يقدم كل منهما للآخر فرصاً وتحديات وتحتاج تركيا في إطار طموحها لدور إقليمي أكبر على وجه التحديد إلى إدارة علاقاتها جيداً مع لبنان بسبب تعقيداته.