بين ليلة وضحاها انقلب مقتدى الصدر، زعيم تيار يحمل اسمه في العراق، الذي يملك قاعدة شعبية عريضة بين الطبقات الشيعية الفقيرة، على الحراك الشعبي المناهض للحكومة والنخبة السياسية الحاكمة.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية الراهنة، مطلع أكتوبر/ تشرين أول الماضي، أبدى الصدر دعمه لمطالبها الرامية إلى الإصلاح ورحيل النخبة السياسية، المتهمة بالفساد والتبعية للخارج، وخاصة إيران.
ودعا الصدر، مرارًا، إلى وقف قتل المتظاهرين ونشطاء الحراك الشعبي، ومحاسبة المسؤولين عن أعمال العنف.
وتخللت الاحتجاجات غير المسبوقة، أعمالُ عنف خلفت أكثر من 600 قتيل بين المحتجين، وفق الرئيس العراقي، برهم صالح.
لكن الصدر بدأ تدريجيًا بالتنصل من مواقفه، وخاصة بعد لقائه قادة فصائل عراقية مسلحة مقربة من طهران، بمدينة قم الإيرانية في 13 ديسمبر/ كانون أول الماضي، وهو لقاء مثّل تغييرًا كبيرًا في توجهاته، بعد أن كان يصف هذه الفصائل بـ”الوقحة”.
ولم يكتف الصدر بتغيير بوصلة مواقفه، بل عمد إلى فضّ الاحتجاجات بالقوة المفرطة، عبر أنصاره المعروفين بأصحاب “القبعات الزرق”، بحسب شهود عيان.
وأفضت حملة القمع هذه إلى تحجيم كبير في رقعة الاحتجاجات، وباتت تقتصر بصورة كبيرة على الساحات العامة الرئيسية، وعاد الانتظام إلى الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية بعد أشهر من الدوام المتقطع.
“القبعات الزرق”
قال جعفر السعدون، ناشط في احتجاجات بغداد، للأناضول، إن “أصحاب القبعات الزرق تغلغلوا في الاحتجاجات ومحيطها وقمعوا المتظاهرين تدريجيًا لغاية تحجيم رقعة التظاهرات في ساحة التحرير وسط العاصمة”.
وأضاف أن “السلطات الأمنية أعادت فتح جسر السنك وساحتي الخلاني والوثبة، فضلًا عن شارع الرشيد، وهي أماكن قريبة من ساحة التحرير، وكانت مغلقة منذ أشهر بفعل الاحتجاجات”.
وشدد السعدون على أن “الاحتجاجات ستستعيد زخمها بكل تأكيد. والصدر لن يكسب إلا عداء وكره المتظاهرين وقاعدته الشعبية في العراق”.
وعمد أصحاب “القبعات الزرق” إلى قمع الاحتجاجات بعد رفض الحراك الشعبي لقرار الرئيس العراقي تكليف وزير الاتصالات العراقي الأسبق، محمد توفيق علاوي، مطلع الشهر الجاري، بتشكيل الحكومة.
وستخلف الحكومة المقبلة حكومة عادل عبد المهدي، التي أجبرها المحتجون على الاستقالة، في الأول من ديسمبر/كانون أول الماضي.
وجرى تكليف علاوي إثر اتفاق غير معلن بين الصدر وخصمه المقرب من إيران، زعيم تحالف “الفتح” هادي العامري، وفق وسائل إعلام عراقية.
وعلى مدى أسبوع، بدءًا من مطلع الشهر الجاري، شن أنصار الصدر حملة منسقة لقمع الاحتجاجات، عبر اقتحام ساحات الاحتجاج، وإعادة فتح الطرق المقطوعة والمؤسسات المغلقة، مستخدمين الرصاص الحي والأسلحة البيضاء والهراوات.
ووقعت أكثر الهجمات دموية في ساحة الصدرين، وسط مدينة النجف (جنوب)، حيث قُتل 11 متظاهرًا وأصيب 122 آخرون بجروح على أيدي أصحاب “القبعات الزرق”.
خسائر التيار
رأى رئيس المركز العراقي لإدارة التنوع، غيث التميمي، أن “الصدر سعى إلى فرض رأيه على الاحتجاجات للقبول بعلاوي، ولم يقبل برفض المتظاهرين له، فضلًا عن عدم قبوله بتنديد المحتجين بإيران”.
وترتبط إيران بعلاقات وثيقة مع الأحزاب الشيعية الحاكمة في بغداد، منذ الإطاحة بنظام صدام حسين، عام 2003.
ويطالب المحتجون برئيس وزراء نزيه ومستقل ولم يتولى سابقًا أية مناصب رسمية، ولا يخضع للخارج، ولاسيما طهران.
وأضاف التميمي للأناضول أن “الخاسر في هذه العملية سيكون الصدر والتيار الصدري؛ فالمتظاهرين ليسوا طرفًا سياسيًا، ولا يوجد لديهم مشروع سياسي لكي يخسروه”.
وتابع: “التيار الصدري خسر الكثير؛ لأنه أمام استحقاقات انتخابية واستحقاقات سياسية، وسيواجه أزمة كبيرة في أقرب انتخابات، بل سيواجه أزمة حتى في تشكيل الحكومة، فعلاقته بالقوى والأطراف السياسية تضررت كثيرًا في الفترة الأخيرة”.
ورأى أن تيار الصدر “فقد أيضًا ثقة المحيط الإقليمي والدولي بانحيازه الواضح لإيران في الفترة الأخيرة”.
ويدعم الصدر تحالف “سائرون”، الذي تصدر الانتخابات البرلمانية في 2018، بفوزه بـ54 من أصل 329 مقعدًا.
وقدم الصدر نفسه، خلال السنوات الماضية، على أنه قومي وطني بعيدًا عن طائفته الشيعية، وأجرى زيارات نادرة لدول عربية خليجية، وعلى رأسها كل من الإمارات والسعودية، التي تتصارع مع إيران على النفوذ في دول عربية عديدة، بينها العراق واليمن.
وقبل سنوات، قاد الصدر بنفسه احتجاجات حاشدة، واقتحم أنصاره مبنى البرلمان عام 2016، احتجاجًا على سوء الخدمات العامة، وانتشار الفساد على نطاق واسع.
لكن يبدو، وفق مراقبين، أنه عاد إلى “راعيته القديمة”، إيران، التي يعيش فيها، وتحديدًا بمدينة قم، حيث دعمت طهران “جيش المهدي”، بزعامة الصدر، خلال محاربته القوات الأمريكية، إبان احتلالها للعراق بين عامي 2003 و2011.
غير أن الصدر وضع نفسه هذه المرة في مواجهة مباشرة مع حراك شعبي مكون في الغالب من شبان يافعين سئموا الفساد ونخبة سياسية رهنت العراق لمصالح الخارج، وفق اتهاماتهم.
حماية الثورة
رغم ذلك، يرى التيار الصدري أن الصدر لا يزال الراعي الأول للاحتجاجات الإصلاحية في العراق.
وقالت البرلمانية عن تحالف “سائرون”، أنعام الخزاعي، للأناضول، إن “هدفنا الحقيقي هو حماية ثورة الإصلاح الجماهيرية من تدخلات مشبوهة من جهات خارجية وداخلية”.
وتابعت أن “اختراق ساحات التحرر ليس سرًا، والمتظاهرون السلميون طالبوا بطرد المندسين الذين يخططون لحرق العراق بأجندات مشبوهة”.
وختمت بأن هذا ما طالب به الصدر، “كشرط لدعمه ساحات التحرر من الفساد والمفسدين”.